للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عن اللغو، عفة في النفس، أداء للأمانة، رعاية للعهد، نطق بحكمة، صمت عن فضول، اصطبار على مكروه، رفق بالضعيف، حلم عند الغضب.

هذه صفحات التاريخ تشهد أن ما من أمة تدرجت في مدارج المدنية وترقت في أوج السعادة فنشرت جناح سلطانها على الأرض واستخضعت لمنافعها قوى الطبيعة إلا بالأخلاق الفاضلة كالعدل والصدق والأمانة والشجاعة وغيرها كما تشهد أن ما من أمة انحدرت من شاهق مجدها وانحلت عروة مجتمعها إلا بتطرق الفساد إلى أخلاقها وفشو الرذائل بين طبقاتها كالظلم والخيانة واللؤم والنفاق إلى غير ذلك من الأخلاق السافلة.

هذه قاعدة أصبحت بحكم القواعد الطبيعية في هذا الوجود البشري فكلما ترقت أمة فإنما تترقى بترقي الأخلاق وكلما تدنت أمة فإنها تتدنى بتدني الأخلاق كما ثبت ذلك باستقراء علماء العمران وإليه يشير القرآن العظيم بقوله تعالى (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فحق عليها القول فدمرناها تدميراً).

انظر إلى دولة الرومان كيف بلغت ما بلغت من العظمة والرفعة أيام كانت الأخلاق الفاضلة منتشرة فيها، عزيزة عليها، محبوبة لديها، فلما منيت ببعض الفجرة من فلاسفتها الذين أخذوا يهدمون أركان الأخلاق الفاضلة ويدكون صروح الآداب السامية لم يمر عليها (وهي دولة العلم والمجد في زمانها) بضع عشرات من السنين حتى انهدم بناؤها وتداعى عمرانها وتغلغل في أحشائها أقوام كانوا السبب في تلاشيها واستيلاء الأغيار عليها. وانظر إلى الدولة الإسلامية كيف كانت في إبان ظهورها لما اتخذت الأخلاق الفاضلة مرجعاً لفخارها وأصلاً لمجدها وسؤددها ودرأ لأدوائها ووزنت الأمور بقسطاس دينهم (وهو قسطاس العدل المستقيم) استقامت على الصراط الأعدل والمنهاج الأقوم.

ثم لم يلبث المسلمون ثمانين سنة (وهم على هذا السير المستقيم) حتى صاروا خلفاء الله في أرضه، كلمتهم العليا، وصراطهم الأبلج، ترتعد الملوك عند ذكر سلطانهم، وتهتز العروش خوفاً من نفوذهم، يقيمون حدود الله تعالى، قد ملئت بأنوار الحق قلوبهم، وتشبعت من روح الفضائل جوانحهم، ولم يلفتهم عن خطتهم ما عاينوه من المظاهر الفاتنة والأخلاق الفاسدة في مدينتي الفرس والرومان بل ترفعوا عما فيها من الجراثيم المفسدة للفضائل، القاتلة للعواطف وقابلوها بأفئدة ملئت ديناً وحكمة، وعرفت معنى الحياة الصالحة، واطمأنت إلى

<<  <  ج: ص:  >  >>