كان الرجل لا يعبد الله وهو مطمئن. أنزل الله على رسوله قوله تعالى (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم آمناً يعبدونني لايشركون بي شيئاً) وكل الناس يعلمون أن هذا الوعد الإلهي تحقق وصار العرب خلفاء الأرض وبلغوا من الملك ما لم تبلغه أمة قبلهم. هذه حادثة اجتماعية تحتاج إلى تعليل مقبول تطمئن إليه النفس وليس أمامنا إلا أحد فرضين وهما إما التسليم بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله حقيقة أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وقد أنجز وعده ونصر عبده وأعز جنده وإما فرض أنه ليس برسول وأنه وصل إلى ما وصل إليه بالتدبير وحسن السياسة. إن مال مائل إلى الفرض الثاني ناقشناه المسألة وقلنا ينبني على أنه ليس برسول جملة أمور (أولاً) أنه مدعي النبوة كذباً (ثانياً) أنه تظاهر بما كان متصفاً به من الأخلاق والعبادة رياءً وانه استطاع أن يثبت على هذا الرياء طول حياته (ثالثاً) أنه استطاع أن يخفي حاله ذلك على كل أحد حتى أخص أصحابه وأخص نسائه (رابعاً) أن الله أيده ونصره وجعل كلمته العليا مع اتصافه بهذا الحال (خامساً) أنه مع اتصافه بهذا الحال أتى بعمل فاق كل المرسلين فإنه ليس في تاريخ الأنبياء انقلاب نشأ من بعثته رسول كالانقلاب الذي أحدثته البعثة المحمدية (سادساً) أن الأمة العربية من الغباوة بالمكان الأسفل (سابعاً) أنه مدع لكنه أتى بما أتى به المرسلون من الكمالات - لنفحص هذه الوجوه السبعة وجهاً وجهاً فنقول: أما فرض ادعائه النبوة كذباً فلا يثبت أمام النقد. لأن النبوة أمر خطير وشأن جليل لا يقدم على ادعائه زوراًَ وبهتاناً إلا رجل مطبوع القلب فاسد الفطرة سيء النية جريء على الله ومن كان كذلك كان حياته سلسلة جرائم وشبكة مآثم بعيدة عن الخير في كافة وجوهها مصروفة عن الفضيلة بسائر ضروبها فهل كان محمد صلى الله عليه وسلم في باكورة حياته من هذا الصنف من الناس أما شهد تاريخه بأنه كان من مكارم الأخلاق وطهارة الخلال قبل النبوة بحيث سماه معاصروه بالأمين لم تحفظ عليه جريمة ولم تعرف عنه خصلة ذميمة: ومن كانت حياته الأولى طهراً وصفاته غراً فكيف ينقلب بعد الأربعين إلى ضدها أو ترتكس طبيعته إلى نقيضها هل تبدلت سنة الخليقة، هل تحولت نواميس الطبيعة.