قد كنا على ما وصفت من الضيق وسوء الحال فأرسل الله إلينا رسولاً نظم شملنا وهذبنا بآداب دينه. وأما ما ضربت من المثل فليس كذلك. ولكن إنما مثلكم كمثل رجل غرس أرضاً واختار لها الشجر وأجرى إليها الأنهار وزينها بالقصور وأقام فيها فلاحين يسكنون قصورها ويقومون على جناتها فخلا الفلاحون في القصور على ما لا يحب. فأطال إمهالهم فلم يستحيوا. فدعا إليها غيرهم وأخرجهم منها. فقال رستم أتعبرون إلينا أم نعبر إليكم فقالوا بل اعبروا إلينا ورجعوا من عنده عشياً. وأرسل سعد إلى أصحابه أن يقفوا مواقفهم. وأرسل إلى رستم أن يعبروا إليه. فأراد رستم العبور على القنطرة فمنعهم سعد وقال أما شيء غلبناكم عليه فلن نرده عليكم. فباتوا يسكرون (العتيق) بالتراب والقصب والبرادع حتى جعلوا جسراً. فعبر رستم ونصب له سريره فجلس عليه. وجعل الفيلة في قلب جيشه ومجنبتيه وجعل الجالينوس بينه وبينه الميمنة والفيرزان بينه وبين الميسرة.
ورتب يزدجرد الرجال بين المدائن والقادسية وهو ملك الفرس يومئذ فجعل أول الرجال على باب إيوانه وآخرهم مع رستم فكلما فعل رستم شيئاً قال الذي معه للذي يليه قد حصل كذا وكذا ثم يقول الثاني ذلك للذي يليه وهكذا إلى أن ينتهي إلى يزدجرد في أسرع وقت. وأخذ المسلمون مصافهم. وكان أميرهم سعد رضي الله عنه قد أصابته دماميل منعته من النزول إلى الحرب بنفسه فاستخلف خالد بن عرفطة على الناس وحثهم على الجهاد وكان ذلك في المحرم سنة أربع عشرة من الهجرة وأرسل جماعة من أهل الرأي لتحريض الناس على القتال ففعلوا. ثم أمر بقراءة سورة الأنفال فهشت قلوب المؤمنين وعيونهم عند سماعها وازدادوا بقراءتها سكينة ويقيناً. وكان مع الفرس يومئذ ثلاثون ألف مسلسل.
ثم قال سعد لأصحابه الزموا مواقفكم فإذا صليتم الظهر فإني مكبر تكبيرة فكبروا واستعدوا. فإذا سمعتم الثانية فكبروا وأتموا عدتكم. فإذا سمعتم الثالثة فكبروا ونشطوا الناس. فإذا سمعتم الرابعة فازحفوا حتى تخالطوا عدوكم وقولوا لا حول ولا قوة إلا بالله.
فلما كبر الثالثة برز أهل النجدات فأشبوا القتال وخرج أمثالهم من الفرس اعتوروا الطعن والضرب وارتجزوا الشعر وأدول من أسر في ذلك اليوم هرمز وكان من ملوك الباب وهو متوج يومئذ. أسره غالب بن عبد الله الأسدي فدفعه إلى سعد ورجع إلى الحرب ثم خرج فارسي وطلب البراز فبرز إليه عمرو بن معدي كرب فأخذه وجلد به الأرض فذبحه وأخذ