في ذلك دليل لأنه لو كان حكمه عندها حكم سائر النجاسات من الغائط والبول والدم لأمرت بغسل الثوب كله، ولما كان الحكم عندها إذا كان موضعه من الثوب غير معلوم النضح، ثبت بذلك أن حكمه كان عندها بخلاف سائر النجاسات. قلت: قد روي في ذلك آثار كثيرة من الصحابة وهي التي ذكرناها عن قريب فكلها تدل على نجاسته كما ذكرنا على أنا نقول أن النضح يأتي بمعنى الصب والغسل، وفي حديث دم الحيض:«تقرصيه بالماء ثم تنضحيه» أي تغسله.
فإن قلت: لما اختلفت الأحاديث والآثار في حكم المني لم يدل دليل قطعاً على نجاسته ولا على طهارته.
قلت: في مثل ذلك يرجع إلى النظر والقياس، فنقول المني حدث لأنه خارج عن السبيل وكل خارج عن سبيل نجس، فالمني نجس.
فإن قلت: إذا ثبت كونه نجساً كان الواجب غسله مطلقاً رطباً كان أو يابساً كسائر النجاسات. قلت: نعم كان القياس يقتضي ذلك، ولكنه ترك، بالأحاديث الواردة بالفرك في يابسه.
وأما حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الذي فيه «إنما هو بمنزلة المخاط والبزاق» فالجواب عنه أنه موقوف، ولئن ثبت أنه مرفوع، فإنه يشهد لنا من وجه لأنه أمر بالإماطة، ومطلق الأمر للوجوب، والتشبيه بالبزاق والمخاط يشهد له فسقط الاحتجاج به.
وأما الجواب عن كونه أصل البشر فإنه لا ينفي النجاسة كالمضغة والعلقة.
وقال النووي: المني يستحيل في الرحم فيصير علقة وهي الدم الغليظ، ففي نجاستها وجهان، قال أبو إسحاق: نجسة، وقال الصيرفي: طاهرة، فإذا استحال بعده وصار قطعة لحم وهي المضغة فالمذهب عندهم القطع بطهارتها كالولد، وقيل فيها الوجهان.
فإن قلت: لم يسمع هذا الذي ذكرتم في الجواب ولا يلزم إلزامكم بالعلقة والمضغة قطعاً.
قلت: قال أبو إسحاق العراقي: المني يجري من الدماغ بعد نضجه ويصير دماً أحمر في فقار الظهر إلى أن يصل إلى الكليتين فتنضجانه ثم تبعثانه إلى الأنثيين فينضجانه منياً أبيضاً، فإذا كان كذلك ثبت أنه متولد من الدم وهو نجس، والنجس لا ينقلب عندهم طاهراً إلا الماء النجس إذا صار قلتين، والخمر إذا تخللت بنفسها، وذكر الأكمل للشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حديث ابن عباس أنه قال: المني كالمخاط فأمطه عنك ولو بإذخرة، لم يحصل جوابه أنه موقوف فلا يصح الاحتجاج به. قلت: يعني عند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكان ينبغي أن يستدل بحديث من الأحاديث المرفوعة الصحيحة التي ذكرها، ثم يجيب عنه، فكيف يذكر له أثر وهو لا يقول به؟ وهذا عجيب وقصور ممن يتصدى لترجيح مذهبه.