فإذا أحسوا فيها ضعفًا بادروا إلى استغلاله قبل فوات الأوان. وللأعراب في هذا الباب حاسة غريبة ذات قدرة كبيرة في إدراك مواطن الضعف عند الحضر وعند الحكومات؛ فإذا تيقنوا بقوة شم حاستهم من وجود ضعف عند الحضر أو عند حكومة ما، ووجدوا أن في إمكانهم استغلاله في صالحهم جاءوا إلى من وجدوا فيه ضعفًا بشروط تتناسب مع ضعف مركزه، وبطلبات يملونها عليه، قد تكون طلب زيادة "الإتاوات" أي: الجُعَالات السنوية التي تدفع لهم، وقد تكون السماح لهم بالزحف نحو أرض الحضر والتوسع في الأرضين الخصبة ذات الكلأ والماء، وقد تكون طلبًا بالاعتراف بسيادتهم على ما استولوا عليه وعلى أعراب البادية، وما إلى ذلك من شروط، قد تزيد فيها إن وجدت ممن تتفاوض معهم تساهلًا وقد تتساهل إن وجدت منهم شدة وعجرفة وقوة، مع اللجوء إلى الحيل السياسية وذلك بالاتصال سرًّا مع الجانب الثاني المعادي للانضمام إليه، وتأييده بحصولهم على شروط أحسن، وعلى ربح أعلى وأكثر مما يعطيهم أصحابهم الذين هم على اتفاق معهم. وسنجد فيما بعد أمثلة على أمثال هذه المفاوضات السياسية السرية تجري مع الفرس، وأحيانًا مع الرومان أو الروم.
وقد علَّمت الطبيعة حكومات العراق وبلاد الشأم دروسًا في كيفية التعامل والتفاهم مع الأعراب. علمتهم أن القوة ضرورية معهم، وأن الصرامة لازمة تجاههم؛ لكبح جماحهم والحد من غلواء غزوهم للحدود وللحواضر، وأن التساهل معهم معناه في نظر الأعراب وجود ضعف في تلك الحكومات، وأن معنى ذلك طلب المزيد. ولذلك أقاموا مراكز محصنة على حواشي الصحارى، أقاموا فيها حاميات قوية ذات بأس ولها علم بالبادية وبمعاركها ودروبها، ومعها ما تحتاج إليه من "الميرة" والماء. وبنوا فيها "أهراء" أي: مخازن تخزن فيها الأطعمة لتوزيعها على الأعراب عند الحاجة للسيطرة عليهم بهذا الأسلوب, كما خزنوا فيها كميات من المياه في "صهاريج" تحت الأرض، وحفروا بها الآبار للشرب، ولتموين الأعراب بها أيضا عند انحباس المطر وحلول مواسم الجفاف. وضعوا كل ذلك في حصون محصنة، ليس في استطاعة الأعراب الدنو منها أو اقتحامها؛ لأن عليها أبراجًا وفي أسوارها الحصينة العالية منافذ يرمي منها الرماة سهامًا تخرج منها بسرعة كأنها شياطين، تُخيف ابن البادية، فتجعله يتحرج من الدنو من تلك الحصون.