ونجد اليوم في العراق وفي بلاد الشأم آثار بعض تلك الحصون التي أقامها حكام العراق وحكام بلاد الشأم لصد غارات الأعراب عن أرض الحضر، ولتوجيههم الوجهة التي يريدونها، حصون منعزلة نائية كأنها جزر صغيرة برزت في محيط من الرمال والأتربة، بعيدة عن مواطن الحضارة، عند أصحابها على إقامتها في هذه المواضع؛ لتكون خطوط دفاع أمامية تحول بين أبناء البادية وبين الدنو من مواطن الحضر، وتشغل الأعراب بالقتال حتى تأتي النجدات العسكرية فتصطدم بهم إن تمكنوا من اختراق تلك الخطوط.
وقد علمت الطبيعة حكام العراق وحكام بلاد الشأم أن القوة وحدها لا تكفي في ضبط الأعراب وتوجيههم الوجهة التي يريدونها، علمتم أن جيوشهم النظامية لا تستطيع أبدًا أن تتعقب فلول الأعراب التي تتراجع بسرعة لا تبلغها عادة الجيوش النظامية في الوصول إلى البادية حصن الأعراب الحصين. وعلمتهم أيضا أن جيوشهم متى توغلت في البادية فإن احتمالات اندحارها واندثارها تزيد عندئذٍ على احتمالات الانتصار؛ فالأعرابي هو ابن البادية، وهو أخبر بها من الحضر، وهو يعرف مواضع "الإكسير" فيها "إكسير الحياة" وهو الماء. لقد خبر آبارها، وخزن الماء في مواضع احتفرها وجعلها سرية فلا يقف عليها إلا خُزَّانها؛ لهذا فإن من الحماقة محاربة الأعراب في ديارهم، وإن من الخير مداهنتهم واسترضاءهم, وذلك بالاتفاق مع سادات القبائل الأقوياء أصحاب الشخصيات والمواهب، على دفع هبات مالية سنوية لهم ترضيهم, في مقابل ضبط الحدود وحمايتها من خطر مهاجمة الأعراب لها وغاراتهم عليها، مهما كان أصل أولئك الأعراب، وفي مقابل الاشتراك مع أولئك الحكام المتحالفين معهم في حروبهم لأعدائهم، إما بتقديم الخدمات الضرورية اللازمة لهم في الحروب، مثل تقديم الجمال لهم لحمل الجنود والأثقال والماء وكل ما يحتاج إليه الجيش في عبوره إلى البوادي.
وتقرن الجعالات السنوية بهدايا وألطاف يقدمها الحكام إلى سادات الأعراب، وبألقاب مشرفة تبهج النفوس الضعيفة لاستوائهم إلى جانبهم، وبدعوات توجه إليهم في المناسبات لزيارة أولئك الحكام والنزول في ضيافتهم، فتخلع عليهم الخلع التي تستهويهم وتجعلهم إلى جانب أولئك الحكام.
ولأجل الوقوف على حركات الأعراب وسكناتهم، ولمراقبة أعمال سادات القبائل، وضعت الحكومات مندوبين عنها في مضارب أولئك السادات، يتنسمون