العرب، نشر النصرانية، الديانة التي قبلوها ودانوا بها، واتخذوها ديانة رسمية للدولة. وفي نشر النصرانية تقوية لنفوذهم، وسند لسياستهم في نزاعهم مع الساسانيين؛ ولهذا نراهم يشجعون إرسال البعثات التبشيرية والإرساليات الدينية إلى إفريقيا وإلى بلاد العرب وإلى الهند، وينفقون بسخاء لبناء الكنائس في تلك الأرضين, يرسلون الخشب النفيس اللازم للبناء، و"الفسيفساء" التي امتازوا بصنعها، والعمال الروم المهرة في البناء؛ ليبنوا كنائس فخمة جميلة تبهر العيون, وتقر الأفئدة، وتؤثر في العقول, فتجلب إليها الناس وتستهويهم، وهناك يتلقاهم المبشرون الذين أوفدوا للتبشير، بتلقينهم النصرانية والإخلاص لإخوانهم في الدين, وفي طليعتهم الروم بالطبع، وفي ذلك كسب سياسي عظيم. وبذلك صارت "الكنائس" دورًا لعبادة الله، ودورًا للتبشير السياسي والثقافي، ومركزًا من مراكز الاستعلامات والتبادل الثقافي في مصطلح هذا الزمن.
وتمكنت النصرانية من كسب بعض العرب، فجرَّتهم إليها. جذبت إليها القبائل الساكنة على حدود الأرياف والأطراف، أي: سكان المناطق الحساسة الدقيقة بالنسبة إلى الخطط السياسية والعسكرية للساسانيين وللبيزنطيين على حد سواء. وقد كان من سوء المصادفات أن النصرانية كانت قد تجزأت إلى شِيَعٍ، وأن غالبية النصارى العرب تمذهبت بمذهب يخالف مذهب الروم، ولكنها كانت تشعر على كل حال أنها مع الروم على دين واحد؛ ولهذا لم يحفل ساسة "القسطنطينية" كثيرًا بموضوع اختلاف المذهب، وإن تألموا من وجوده وظهوره، فساعدوا نصارى اليمن ونصارى الأماكن الأخرى من جزيرة العرب على اختلافهم عنهم، وعملوا في الوقت نفسه على نشر مذهبهم بين العرب؛ ليتمكنوا بذلك من إيجاد محيط ثقافي سياسي يؤيد البيزنطيين.
وعني الساسانيون بتقوية حدودهم مع البادية كما فعل البيزنطيون، وكما فعل "الفرث" وغيرهم ممن حكم قبلهم, وسعوا في استرضاء سادات القبائل وأصحاب السلطان من حكام البوادي، وبنوا "المسالح" في المشارف المؤدية إلى أرياف العراق لحمايتها من الغزو، ولتقوم بتأديب الأعراب ومراقبة حركاتهم وتجمعاتهم؛ لتكون الحكومة على علم بما يريدون فعله، ووضعوا في الخليج سفنًا لحماية سفنهم من التحرش بها، ولحماية حدودهم الجنوبية الواقعة على الخليج من التعرض للغزو, وأقام "أردشير الأول""٢٢٥-٢٤١م" عدة موانئ بحرية ونهرية لهذا الغرض.