للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

"جلبة" رجلًا من مزينة على عينه، فأمره عمر بالاقتصاص منه، فقال: أو عينه مثل عيني! والله لا أقيم ببلد عليَّ به سلطان. فدخل بلاد الروم مرتدًا. وروى رواية أخرى خلاصتها أن جبلة أتى عمر على نصرانية، فعرض عمر عليه الإسلام، ولكنه لم يتفق مع عمر. فلما قال له عمر: ما عندي لك إلا واحدة من ثلاث: إما الإسلام، وإما أداء الجزية، وإما الذهاب إلى حيث شئت.

فدخل بلاد الروم في ثلاثين ألفًا فلما بلغ ذلك عمر ندم١.

وتذكر رواية أن "جبلة بن الأيهم" عاش في القسطنطينية حتى مات سنة عشرين من الهجرة٢.

فنحن أمام روايتين بشأن مكان ردة جبلة، وتجاه رواية عن إسلامه. رواية تجعل ارتداده في مكة، ورواية تجعل ارتداده بدمشق، ورواية تذكر أنه لم يدخل مطلقًا في الإسلام. ويظهر أن رواية دمشق هي أقرب إلى المنطق؛ إذ لا يعقل فرار جبلة من مكة إلى بلاد الروم بمثل هذه السهولة التي تخيلها أهل الأخبار، وبينه وبين بلاد الروم مسافات شاسعة ما كان في إمكانه قطعها قط والنجاة من تعقب المسلمين له، لو كان موضع هربه هو مكة. أما دمشق، فإنها قريبة من حدود الروم، ولدى جبلة فيها وسائل كبيرة تساعده على الهرب.

والرأي عندي أن جبلة، لم يدخل أبدًا في الإسلام، وإنما بقي مع الروم.

وغادر بلاد الشأم معهم، وكان يحارب المسلمين إلى جانبهم، وانتقل بأتباعه ممن بقوا على دينهم إلى بلاد الروم فأقاموا بها، وقد مات هناك ودفن في تلك البلاد، وما هذا الذي روي عن إسلامه وعن زيارته ليثرب ولمكة إلا من قصص القصاص وضعوه فيما بعد.

إن ما يذكره أهل الأخبار من ملك "جبلة"، لا يخلو من مبالغة، وما يقال عن ملكه وعن استقبال "هرقل" له، ذلك الاستقبال العظيم، لا يخلو من مبالغة أيضًا. نعم من الجائز أن الروم قبلوه لاجئًا، ورحبوا به وساعدوه على أمل استخدامه لمهاجمة المسلمين، واسترداد بلاد الشأم منهم، غير أننا لا نستطيع أن نوافق على ما ورد في روايات أهل الأخبار من ذلك الوصف الذي ذكروه من احتفال الروم في القسطنطينية. ومن المعيشة التي كان يعيشها في عاصمتهم


١ فتوح البلدان "ص١٤٢ وما بعدها".
٢ ابن خلدون "٢/ ٢٨١".

<<  <  ج: ص:  >  >>