للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلى عهد قديم، عجز أصحاب هذه الرواية عن إدراك وقته، فوضعوه في أيام هود.

ثم نرى روايات أخرى ترجع بدء اشتهار قريش بالتجارة إلى أيام "هاشم"، وهي تزعم أن تجارة قريش كانت منحصرة في مكة، يتاجر أهلها بعضهم مع بعض, فتُقْدِم العجم عليهم بالسلع، فيشترونها منهم ثم يتبايعونها بينهم، ويبيعونها لمن حولهم من العرب, فكانوا كذلك حتى ركب "هاشم بن عبد مناف" فنزل بقيصر، وتعاقد معه على أن يسمح له ولتجار قريش بالاتجار مع بلاد الشام, فوافق على ذلك, وأعطاه كتابا بذلك. فلما عاد, جعل كلما مر بحي من العرب بطريق الشام، أخذ من أشرافهم إيلافًا، أي: عقد أمان، فضمن بذلك لقومه حرية الاتجار بأمن وسلام، واشتهرت قريش بالتجارة منذ ذلك العهد١.

وقد علَّمت الأسفار سادة قريش أمورًا كثيرة من أمور الحضارة والثقافة، فقد أرتهم بلادًا غريبة ذات تقدم وحضارة، وجعلتهم يحتكون بعرب العراق وبعرب بلاد الشام، فتعلموا من "الحيرة" أصول كتابتهم، وهذَّبوا لسانهم, ودونوا به أمورهم. وذكر أنهم كانوا من أفصح العرب لسانًا, وقد شهد العرب لهم بفصاحة اللسان، حتى إن الشعراء كانوا يعرضون عليهم شعرهم، وذكر أن الشاعر "علقمة الفحل" عرض عليهم شعره، فوصفوه بـ"سمط الدهر"٢.

وقد علمت الطبيعة أهل مكة أنهم لا يتمكنون من كسب المال ومن تأمين رزقهم في هذا الوادي الجاف، إلا إذا عاشوا هادئين مسالمين، يدفعون الإساءة بالحسنة، والشر بالصبر والحلم، والكلام السيئ اليذيء بالكلام الحسن المقنع المخجل. فتغلب حلمهم على جهل الجاهلية، وجاءت نجدتهم في نصرة الغريب والذب عن المظلوم والدفاع عن حق المستجير بهم، بأحسن النتائج لهم، فصار التاجر والبائع والمشتري يفد على سوق مكة، يبيع ويشتري بكل حرية؛ لأنه في بلد آمن، أخذ سادته على أنفسهم عهدًا بألا يتعدى أحد منهم على غريب؛ لأن الإضرار به يبعد الغرباء عنهم، وإذا ابتعد الغرباء عن مكة، خسروا جميعًا موردًا من موارد رزقهم, يعيش عليه كل واحد منهم بلا استثناء. لذلك


١ ذيل الأمالي "ص١٩٩", الثعالبي, ثمار القلوب "١١٥ وما بعدها".
٢ الأغاني "٢١/ ١١٢".

<<  <  ج: ص:  >  >>