للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كان الغريب إذا ظُلِمَ، نادى: يا آل قريش، أو يا آل مكة, أو يا آل فلان، ثم يذكر ظلامته، فيقوم سادة مكة أو من نُودي باسمه بأخذ حقه من الظالم له.

وقد اصطلحت قريش على أن تأخذ ممن ينزل عليها في الجاهلية حقًّا, دعته: "حق قريش". وفي جملة ما كانوا يأخذونه من الغريب القادم إليهم عن هذا الحق بعض ثيابه أو بعض بدنته التي ينحر. ويأتي أهل الأخبار بمثل على ذلك هو مثل: "ظويلم ويلقب مانع الحريم، وإنما سمي بذلك؛ لأنه خرج في الجاهلية يريد الحج، فنزل على المغيرة بن عبد الله المخزومي، فأراد المغيرة أن يأخذ منه ما كانت قريش تأخذ ممن نزل عليها في الجاهلية, وذلك سمي: الحريم, وكانوا يأخذون بعض ثيابه أو بعض بدنته التي ينحر، فامتنع عليه ظويلم"١. وظويلم منع عمرو بن صرمة الإتاوة التي كان يأخذها من غطفان٢.

وقد جعلت طبيعة هذا الوادي أهل مكة يميلون إلى السلم، ولا يركنون إلى الحرب والغزو إلا دفاعًا عن نفس، وهو شيء منطقي محترم، فأهل مكة في وادٍ ضيق بين جبلين متقابلين، وفي استطاعة الأعداء إنزال ضربات موجعة بهم من المرتفعات المسيطرة عليه، وبسد منفذيه، يحصر أهله فتنقطع عنهم كل وسائل المعيشة من ماء وطعام. لذلك لم يجدوا أمامهم من سبيل سوى التجمل بالحلم والصبر واتباع خطة الدفاع عن النفس، بالاعتماد على أنفسهم وعلى غيرهم من أحلافهم كالأحابيش حلفائهم وقريش الظواهر. وقد أدت هذه الخطة إلى اتهام قريش أنها لا تحسن القتال، وأنها إن حاربت خسرت، وأنها كانت تخسر في الحروب؛ فخسرت ثلاث حروب من حروب الفجار الأربعة، إلى غير ذلك من تهم. ولكن ذلك لا يعني أن في طبع رجال قريش جبنًا، وأن من سجية قريش الخوف، وإنما هو حاصل طبيعة مكان، وإملاء ضرورات الحياة لتأمين الرزق. ولو أن أهل مكة عاشوا في موضع آخر، لما صاروا أقل شجاعةً وأقل إقبالًا في الاندفاع نحو الحرب والغزو من القبائل الأخرى.

وقد تمكنت مكة في نهاية القرن السادس وبفضل نشاط قريش المذكور من القيام بأعمال مهمة، صيرتها من أهم المراكز المرموقة في العربية الغربية, في التجارة


١ الاشتقاق "ص١٧١ وما بعدها".
٢ الاشتقاق "١٧٢".

<<  <  ج: ص:  >  >>