وقد منح "لامانس" الأحابيش درجة مهمة في الدفاع عن قريش, حتى زعم أن قريشا ركنت إليهم في دفاعهم عن مكة، وعهدت إليهم دورا خطيرا في حروبها مع الرسول. وقد استند في رأيه هذا إلى ما رواه أهل الأخبار من اشتراكهم مع قريش في تلك الحروب، غير أننا نجد من دراسة أخبار الحروب المذكورة، أن الأحابيش وإن ساهموا فيها، إلا أنهم لم يلعبوا دورا خطيرا فيها, وأنهم لم يكونوا في تلك الحروب سوى فرقة من الفرق التي ساعدت قريشًا، مقابل مال ورزق ووعود. ولم يكن الأحباش وحدهم قد ساعدوا أهل مكة في حروبهم مع غيرهم, فقد ساعدهم أيضا طوئف من الأعراب أي: من البدو الفقراء الذين كانوا يقاتلون ويؤدون مختلف الخدمات في سبيل الحصول على خبز يعيشون عليه.
وقريش جماعة استقرت وتحضرت، واشتغلت بالتجارة، وحصلت منها على غنائم طيبة. ومن طبع التاجر الابتعاد عن الخصومات والمعارك والحروب؛ لأن التجارة لا يمكن أن تزدهر وتثمر إلا في محيط هادئ مستقر. لذلك، صار من سياستها استرضاء الأعراب وعقد "حبال" مع ساداتهم؛ لتأمين جانبهم، ليسمحوا لقوافلها بالمرور بسلام. كما صار من اللازم عليها عقد أحلاف مع المجاورين لهم من الأعراب مثل "قريش الظواهر" و"الأحابيش" وأمثالهم للاستعانة بهم في الدفاع عن مكة والاشتراك معهم في حروبهم التي قد يجبرون على خوضها مع غيرهم. بالإضافة إلى عبيدهم "الحبش" الذين اشتروهم لتمشية أمورهم, وليكونوا حرسًا وقوة أمن لهم.
ولم تكن قريش تعتمد على القوة في تمشية مصالحها التجارية، بقدر اعتمادها على سياسة الحلم واللين والقول المعسول والكلام المرضي في الوصول إلى غايتها, وأهدافها ومصالحها التجارية. وبهذه السياسة: سياسة اللين والمفاوضة والمسالمة, كانت تبدأ بحل ما يقع لها من صعوبات مع الناس. ولم يكن من السهل عليها في الواقع إرضاء الأعراب وإسكاتهم لولا هذه السياسة الحكيمة التي اختاروها لأنفسهم, وهي سياسة أكثر سكان القرى العامرة الواقعة في البوادي بين أعراب جائعين، سياسة الاسترضاء بالحكمة واللسان الجميل, وأداء المال رشوة لهم بأقل مقدار ممكن؛ لأن الإكثار من السخاء يثير في الأعرابي شهوة طلب المزيد, وشهوته هذه متى ظهرت، فسوف لا تنتهي عند حد. وأهل مكة بخبرتهم الطويلة في تجولهم بمختلف أنحاء جزيرة العرب أعرف من غيرهم بنفسية الأعراب.