للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ليأخذ محله الجبل الذي نبت منه. وكل يأخذ دوره في هذه الحياة، فإذا انتهى دور إنسان، قام بدوره نسله، وهكذا، وبهذا المعنى تفسر الحياة، ويفسر الموت.

وقد يسأل سائل إذا كان أغلب أهل الجاهلية لا يؤمنون بثواب ولا بحساب وبعث ونشر، فلمَ تعبدوا إذن لإله، وتقربوا إلى الأصنام، وقدموا القرابين والنذور؟ وجوابي على هذا السؤال، هو ما ذكره المتقدمون عنه. قالوا: "كانت العرب في الجاهلية تدعو في مصالح الدنيا فقط، فكانوا يسألون الإبل والغنم والظفر بالعدو، ولا يطلبون الآخرة؛ إذ كانوا لا يعرفونها ولا يؤمنون بها"١. فعبادتهم الله وتقربهم إلى الآلهة، هي لمصلحة دنيوية، لنفع ولزيادة في مال، ولدفع شر الأذى والأمراض وعيون الحساد، ومن كل ما هو شر، أما الآخرة، فلا علم لهم بها.

وما خوفهم من الآلهة إلا لاعتقادهم أنها تضرهم وتهلكهم وتنزل بهم الشر في هذه الدنيا. فإذا أقسم أحدهم كذبًا، انتقمت الآلهة منه وأنزلت به نازلة، لذلك تجنبوا الإيمان الكاذبة، وامتنعوا من الحلف جهد إمكانهم؛ لخوفهم من عاقبة الحلف الكذب. والعاقبة السيئة تكون في هذه الدنيا. وهي عواقب مادية؛ لأن عقلية أكثر أهل الجاهلية لا تدرك إلا القيم المادية للأشياء. فتصوروا العاقبة السيئة تصورًا ماديًّا، كنزول مرض بإنسان أو نزول كارثة بماله أو بإبله أو بزرعه أو بأهله، وهي أمور يخشاها الجاهلي، تكون معجلة في نظره، أي في هذه الدنيا؛ لأنهم لا يعرفون أن في الحياة دارًا غير هذه الدار، ولا يؤمنون بحشر وبعث.

جاء في الأخبار أن "ضمام بن ثعلبة" السعدي، ويقال التميمي، لما قدم على الرسول أقبل حتى وقف على رسول الله، وهو في أصحابه، فقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ فقال رسول الله: أنا ابن عبد المطلب. قال: أمحمد؟ قال: نعم. قال: يابن عبد المطلب إني سائلك ومغلظ عليك في المسألة فلا تجدن في نفسك قال: لا أجد في نفسي سل عما بدا لك. قال: أنشدك بالله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك الله أمرك أن نعبده وحده.


١ تفسير القرطبي "٢/ ٤٣٢".

<<  <  ج: ص:  >  >>