وإني أشك في كون هذا الشعر من شعر "الأعشى"؛ فالأعشى رجل لم يسلم وإن أدرك أيام الرسول، كان قد قصد الرسول، ونظم قصيدة في مدحه، ولكن قريشًا أثَّرت عليه، وحالت بينه وبين الوصول إلى الرسول، وعاد إلى "منفوحة" بلدته، فمات بها دون أن يسلم. والرأي عندي أن تلك الأبيات هي من صنع مسلم، وضعها على لسانه.
ولا يعني شكِّي في صحة نسبة هذه الأبيات إلى الأعشى، أن الأعشى كان بعيدًا عن آراء ومعتقدات أهل الكتاب، غير واقف على أخبارهم وعقائدهم, فقد كان الأعشى جوّالا جوّابا زار العراق وبلاد الشام، اتصل بقبائل نصرانية، وجالس اليهود والفرس والروم، ووردت في أشعاره ألفاظ من ألفاظ الحضارة الأعجمية، كما وردت فيها أفكار تدل على وقوف على آراء وأفكار دينية وخواطر فلسفية, فرجل مثل هذا لا يستبعد وقوفه على قصص يهودي ونصراني وعلى آراء دينية لأهل الكتاب. وللحكم على مقدار فهمه لها يمكن بالطبع دراسة ما ورد في الشعر على لسانه، ومطابقته بما نعرفه من آراء القوم؛ لنقف على درجة صلة ما جاء في شعر الأعشى من آراء ومعتقدات بآراء أهل الكتاب ومعتقداتهم.
أما الأماكن التي ظهرت فيها هذه الروايات الإسرائيلية، فهي: اليمن، والمدينة، والعراق, ومن العراق الكوفة بصورة خاصة. وقد كان في كل هذه المواضع رجال من أهل الكتاب موَّنوا أهل الأخبار بما كانوا يرغبون في معرفته، ولم يكن هؤلاء على قدر واحد في المعرفة والفهم، والظاهر أن منهم من لم يكن له إلمام بالتوراة ولا بالتلمود وغيرهما من الكتب، وإنما أخذ ذلك من أهل النظر منهم، أو كما وصل إليه من أهله وحاشيته؛ ولذلك اضطرب الأخباريون في بعض الأحيان في رواية خبر واحد، كما اختلفوا في ضبط الأسماء. وقد علل ابن خلدون اختلافهم في ضبط الأسماء بقوله:"واعلم أن الخلاف الذي في ضبط الأسماء إنما عرض في مخارج الحروف، فإن هذه الأسماء إنما أخذها العرب من أهل التوراة, ومخارج الحروف في لغتهم غير مخارجها في لغة العرب. فإذا وقع الحرف متوسطًا بين حرفين من لغة العرب، فترده العرب تارة إلى هذا وتارة إلى هذا, وكذلك إشباع الحركات قد تحذفه العرب إذا نقلت كلام العجم، فمن هاهنا اختلف الضبط في هذه الأسماء"١.