أنه بعث عليه -الصلاة والسلام- وهو وأكثر من بعث إليهم وهو بين ظهرانيهم من العرب أميون، لا يكتبون ولا يحسبون، فلا يضر عدم بقاء وصف الأمية في الأكثر بعد. وأما ما ذكر من تأويل كتب بأمر بالمكاتبة، فخلاف الظاهر. وفي شرح صحيح مسلم للنووي عليه الرحمة نقلًا عن القاضي عياض: أن قوله في الرواية التي ذكرناها: ولا يحسن يكتب فكتب، كالنص في أنه -صلى الله عليه وسلم- كتب بنفسه، فالعدول عنه إلى غيره مجاز لا ضرورة إليه. ثم قال: وقد طال كلام كل فرقة في هذه المسألة وشنعت كل فرقة على الأخرى في هذا"١.
وبحث "القرطبي" في هذا الموضوع أيضًا، فقال: "{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} ، الضمير في قبله عائد إلى الكتاب، وهو القرآن المُنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- أي: وما كنت يا محمد تقرأ قبله، ولا تختلف إلى أهل الكتاب، بل أنزلناه إليك في غاية الإعجاز والتضمين للغيوب وغير ذلك، فلو كنت ممن يقرأ كتابًا، ويخط حروفًا لارتاب المبطلون, أي: من أهل الكتاب، وكان لهم في ارتيابهم متعلق، وقالوا: الذي نجده في كتبنا أنه أمي لا يكتب ولا يقرأ وليس به. قال مجاهد: كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- لا يخط ولا يقرأ، فنزلت هذه الآية؛ قال النحاس: دليلًا على نبوته لقريش؛ لأنه لا يقرأ ولا يكتب ولا يخالط أهل الكتاب ولم يكن بمكة أهل الكتاب فجاءهم بأخبار الأنبياء والأمم، وزالت الريبة والشك.
الثانية: ذكر النقاش في تفسير الآية عن الشعبي أنه قال: ما مات النبي -صلى الله وعليه وسلم- حتى كتب. وأسند أيضًا حديث أبي كبشة السلولي؛ مضمنه: أنه -صلى الله عليه وسلم- قرأ صحيفة لعيينة بن حصن، وأخبر بمعناها. قال ابن عطية: وهذا كله ضعيف، وقول الباجي رحمه الله منه.
قلت: وقع في صحيح مسلم من حديث البراء في صلح الحديبية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعليّ:"اكتب الشرط بيننا: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله"، فقال له المشركون: لو نعلم أنك رسول الله تابعناك –وفي رواية بايعناك– ولكن اكتب محمد بن عبد الله، فأمر عليًّا
١ محمد عبد العظيم الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن "ص٣٥٨ وما بعدها" "الطبعة الثانية"، "عيسى البابي الحلبي".