للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أن يمحوها، فقال علي: والله لا أمحاه. فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: أرني مكانها، فأراه فمحاها وكتب ابن عبد الله. قال علماؤنا, رضي الله عنهم: وظاهر هذا أنه -عليه السلام- محا تلك الكلمة التي هي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده، وكتب مكانها ابن عبد الله. وقد رواه البخاري بأظهر من هذا فقال: فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الكتاب فكتب. وزاد في طريق أخرى: ولا يحسن أن يكتب. فقال جماعة، بجواز هذا الظاهر عليه وأنه كتب بيده، منهم: السمناني وأبو ذر والباجي، ورأوا أن ذلك غير قادح في كونه أميًّا، ولا معارض بقوله: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِك} ، ولا بقوله: "إنا أمه أمية لا نكتب ولا نحسب"، بل رأوه زيادة في معجزاته، واستظهارًا على صدقه وصحة رسالته، وذلك أنه كتب عن غير تعلم لكتابة، ولا تعاط لأسبابها، وإنما أجرى الله تعالى على يده وقلمه حركات كانت عنها خطوط مفهومها: ابن عبد الله لمن قرأها، فكان ذلك خارقًا للعادة، كما أنه -عليه السلام- عَلِمَ عِلْمَ الأولين والآخرين من غير تعلم ولا اكتساب، فكان ذلك أبلغ معجزاته، وأعظم فضائله. ولا يزول عنه اسم الأمي بذلك، ولذلك قال الراوي عنه في هذه الحالة: ولا يحسن أن يكتب. فبقي عليه اسم الأمي مع كونه قال: كتب. قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر: وقد أنكر هذا كثير من متفقهة الأندلس وغيرهم، وشددوا النكير فيه، ونسبوا قائله إلى الكفر، وذلك دليل على عدم العلوم النظرية، وعدم التوقف في تكفير المسلمين، ولم يتفطنوا؛ لأن تكفير المسلم كقتله على ما جاء عنه -عليه السلام- في الصحيح، لا سيما رمي من شهد له أهل العصر بالعلم والفضل والإمامة، على أن المسألة ليست قطعية، بل مستندها ظواهر أخبار آحاد صحيحة، غير أن العقل لا يحيلها، وليس في الشريعة قاطع يحيل وقوعها.

قلت: وقال بعض المتأخرين من قال هي آية خارقة، فيقال له: كانت تكون آية لا تنكر لولا أنها مناقضة لآية أخرى، وهي كونه أميًّا لا يكتب، وبكونه أميًّا في أمة أمية قامت الحجة، وأفحم الجاحدون، وانحسمت الشبهة، فكيف يطلق الله تعالى يده فيكتب وتكون آية. وإنما الآية ألا يكتب، والمعجزات يستحيل أن يدفع بعضها بعضًا. وإنما معنى كتب وأخذ القلم، أي: أمر من يكتب به من كتّابه، وكان من كتبة الوحي بين يديه -صلى الله عليه وسلم- ستة وعشرون كاتبًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>