ودومة الجندل, وبلاد الشأم, كانوا من النصارى, فلا أستبعد احتمال استعمال رجال الدين للقلم السرياني المتأخر, الذي كوّن القلم النبطي في كتابة العربية, لحاجتهم إلى الكتابة في تعليم أولاد النصارى الكتابة, وتثقيفهم ثقافة دينية, فكانوا يعلمونها في المدارس الملحقة بالكنائس, وربما نشروها في البحرين, أي: في سواحل الخليج حيث كانت هنالك جاليات نصرانية, وفي الأماكن الأخرى من جزيرة العرب التي كانت النصرانية فيها قد وجدت سبيلًا لها بينها, ولا أستبعد احتمال عثور المنقبين في المستقبل على كتابات مطمورة كتبت بهذا القلم.
وتفيدنا دراسة شكل خط هذه النصوص فائدة كبيرة في الوقوف على تطور الخط العربي, فبين رسم هذه الخطوط وبين رسم أقدم الخطوط العربية الإسلامية تقارب كبير, يشير إلى اشتقاق القلم الذي دوّن به الوحي من هذا القلم, وهو القلم الذي كان يكتب به عرب العراق كذلك على ما أرى. وهو قلم وصل بين حروفه, وفصل في مواضع أخرى. وهو يختلف بذلك عن القلم المسند الذي استعمل حروفًا منفصلة فقط, ولم يعرف الحروف المتصلة, كما أن شكل حروفه بعيد جدًّا عن شكل حروف هذا القلم, وهو أسهل وأسرع في الكتابة على الكاتب من المسند.
ونرى في هذه الصورة التي تضم رسم الحروف في الخط النبطي المتأخر والقلم العربي القديم, تشابهًا كبيرًا في الشكل, ينبئك بوجود نسب بين القلمين, وأن القلم العربي القديم, قد تولد منه. ولا أستبعد أن يكون قلم أهل الحيرة هو هذا القلم نفسه, استعملوه في تدوين العربية. وقد رأينا أن النصوص القليلة المكتوبة بنبطية متأثرة بالعربية, قد كتبت بهذا القلم, وبينها نص "النمارة" الذي هو شاخص قبر "امرئ القيس" أحد ملوك الحيرة.
وإني لا أستبعد احتمال عثور المنقبين والباحثين في المستقبل على كتابات عربية قديمة تعود إلى الجاهلية الملاصقة للإسلام وإلى أيام الرسول بكثرة تمكن العلماء من وضع رأي واضح عن منشأ وتطور الخط العربي القرآني.
وقد استعملتُ جملة "الخط العربي القرآني"؛ لأن القرآن هو في الواقع صاحب الفضل على هذا الخط في تخليده وتثبيته لأمر الرسول بتدوين الوحي به, أي: بهذا القلم العربي القديم الذي أتحدث عنه, الذي أخذه أهل مكة من أهل