للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويعود عهدها إلى "جمادى الآخرة" من سنة إحدى وثلاثين١.

ولا خلاف بين الباحثين في أن كل ما وصل إلينا من نصوص جاهلية إنما هو بلغة النثر، إذ لم يعثر حتى الآن على نص مكتوب شعرًا. ونظرًا إلى وجود التدوين عند أصحاب هذه النصوص، ونظرًا لأن الشعر، شعور، لا يختص بإنسان دون إنسان، وبعرب دون عرب، فأنا لا أستبعد احتمال تدوين الجاهليين الشعر أيضًا، مثل تدوينهم لخواطرهم وأمورهم نثرًا. دوّنوه بلهجاتهم التي كتبوا بها. وهي بالنسبة لهم لهجاتهم الفصيحة المرضية. أما سبب عدم وصول شيء مدوّن منه إلينا، فقد يعود حسب رأيي، إلى أن تدوين الشعر والنثر يكون في العادة على مواد قابلة للتلف، مثل الجلود والخشب والعظام وما شاكل ذلك, وهي لا تستطيع مقاومة الزمن, لا سيما إذا طمرت تحت الأتربة، ثم هي معرضة لالتهام النار لها عند حدوث حريق، أو للتلف إن أصابها الماء، أضف إلى ذلك أنهم كانوا يغسلون الجلد المكتوب، للكتابة عليه مرة أخرى، لغلاء الجلود، وهو ما حدث عند غير الجاهليين أيضًا. ونجد في المؤلفات الإسلامية أمثلة كثيرة على غسل الصحف المكتوبة للكتابة عليها من جديد. ورسائل النبي وكتبه وأوامره إلى عماله ورسله على القبائل، فقد فقدت وضاعت مع ما لها من أهمية في نظر المسلمين، وقل مثل ذلك عن كتب الخلفاء، فلا نستغرب إذن ضياع ما كان مدونًا من شعر جاهلي، فقد نص مثلًا على أن الشاعر "عدي بن زيد" العبادي، وكان كاتبًا مجودًا بالعربية وبالفارسية حاذقًا باللغتين قارئًا لكتب العرب والفرس، كان يدوّن شعره وهو في سجن النعمان ويرسل به إلى الملك، يتوسل إليه فيه أن يرحم به، وأن يعيد إليه حريته، وكان الشعر يصل إلى الملك، فلما طال سجنه صار يكتب إلى أخيه أُبي بشعر٢، لم تبق من أصوله المكتوبة أية بقية، وقد ضاعت أصول شعره المكتوب المرسل إلى النعمان كذلك، حتى إننا لا نجد أحدًا من رواة شعره يروى أنه رجع إليها فنقل منها، مما يبث على الظن أنها فقدت منذ عهد بعيد عن بداية عهد التدوين.

ويدفعنا موضوع التدوين إلى البحث عن تدوين الأدب والعلم عند الجاهليين،


١ ولفنسون، السامية "٢٠٢".
٢ الطبري "٢/ ١٩٧ وما بعدها"، "ذكر خبر ذي قار".

<<  <  ج: ص:  >  >>