مدرسة عربية، هي مدرسة "جنديسابور"، عرفت واشتهرت في الطب. وقد كان عماد دراستها في الطب ما ألفه اليونان، وما نقله منها علماء السريان. ولا أعتقد أنهما كانا في جهل بمؤلفات أبقراط وجالينوس وغيرهما ممن بنوا صنعة الطب، ووضعوا فيها المؤلفات. بل لا أعتقد أن رجالًا في مكة أو في يثرب أو الطائف كانوا على جهل بأسماء مشاهير حكماء اليونان، وبينهم من كان له اتصال ببلاد الثقافة والعلم وبالأجانب على نحو ما ذكرت، وإن أغفل عن ذكرهم أهل الأخبار.
ويظهر من روايات أهل الأخبار-مثل رواية ابن الكلبي عن وجود دواوين فيها ما مدح به آل لخم وما قيل فيهم من شعر ومقدار ما حكم كل واحد منهم، وروايات غيره عن تدوين الشعر قبل الإسلام- أن الجاهليين كانوا قد شرعوا في تدوين الأخبار والشعر وما لفت انتباههم قبل الإسلام، وقد يكون ذلك قبيل الإسلام بعهد غير بعيد، وأن التدوين كان بهذه اللغة التي نزل بها القرآن الكريم، أن بلهجات قريبة منها. ومعنى هذا أن هذه اللهجة كانت قد اكتسبت قوة في هذا العهد، حملت الناس على التدوين وعلى نظم الشعر بها. ولكن الذي رفعها وجعلها لغة للعرب أجمعين، هو القرآن الكريم من غير شك، فبفضله صارت هذه اللغة لغة للعرب كلهم ولغة المسلمين الدينية.
ويظهر من القرآن الكريم أن هذه اللغة كانت قد عرفت ألفاظ الحضارة والفكر في يوم نزوله، لورودها فيه. ولورودها فيه أهمية كبيرة في إعطاء فكرة عن مستوى أهل الحجاز العقلي في ذلك اليوم، ففيه ألفاظ مثل العلم والعلماء والحكمة والأساطير والأمثال إلخ ... وألفاظ ذات صلة بالكتابة والتدوين تحدثت عنها ومصطلحات أخرى، ولا يمكن ورود مثل هذه الكلمات في لغة قوم ما، ما لم يكن لهم أو لجماعة منهم على الأقل، حظ من ثقافة وتفكير وعلم.
ولا أقصد أن الجاهليين استعملوا تلك الألفاظ بمدلولها المفهوم في الزمن الحاضر، أو بالمعاني المفهومة منها عند اليونان. فلفظة "علم" مثلًا، لا تعني علمًا بالمصطلح الحديث, أي: في مقابل Science في الإنكليزية، وإنما تعني المعرفة عامة. ولفظة "علماء"، لا تعني المشتغلين بالعلوم خاصة أي ما يقال لهم Scientist في الإنكليزية، وإنما يراد بهم العارفون أصحاب المعرفة والفهم. وقد صار للفظتين مدلولان خاصان في العصر العباسي، ولكن هذا لا يعني أن لفظة "علم" أو "علماء"، لم تكن تعني معنًى خاصًّا عند الجاهليين، وإلا ما استعملت للتعبير