اللغة ليست لغة قريش، وإنما هي لغة قبيلة أخرى مهما تكن هذه القبيلة"١.
ثم يمضي قائلًا: "فنحن مضطرون أمام هذا الإجماع من جهة، وأمام قرشية النبي من جهة أخرى، وأمام نزول القرآن في قريش من جهة ثالثة، وأمام فهم قريش للفظ القرآن في غير مشقة ولا عنف من جهة رابعة، وأمام اتفاق القرآن في اللغة واللهجة مع ما صح من حديث النبي القرشي ومن الرواية عن أصحابه القرشيين من جهة خامسة، إلى أن نسلم بأن لغة القرآن إنما هي لغة قريش.
ستقول: ولكن هذه اللغة قد كانت تفهم في غير قريش من قبائل الحجاز ونجد، ومن هذه القبائل المضري كقيس وتميم، ومنها اليمني كخزاعة والأوس والخزج، بل منها قبائل لم تكن عربية بوجه من الوجوه وهي هذه اليهودية التي كانت تستعمر شمال الحجاز. ولكنك تعرف رأينا في النسب وفي انتماء هذه القبائل إلى اليمن أو إلى مضر. ومع هذا فقد قلنا: إن لغة قريش سادت قبيل الإسلام. ونحن إن فكرنا عرفنا أن سيادة اللغات إنما تتصل عادة بالسيادة السياسية والاقتصادية. فلنبحث عن البيئات الممتازة من الوجهة السياسية والاقتصادية في شمال البلاد العربية قبيل الإسلام.
الحق أننا لا نستطيع أن نفكر في هذه السيادة الفارسية في الحيرة أو هذه السيادة الرومية في أطراف الشأم، فقد كانت هناك أسر عربية تمثل هذه السيادة، وكانت لهذه الأسر ضروب من السلطان، ولكن هذه الأسر لم تكن فيما يظهر حجازية، ولم تكن بيئاتها بيئات عربية خالصة، إنما كانت بيئات مختلطة أقرب إلى الأعجمية منها إلى أي شيء آخر. فلم تبق إلا بيئات أربع: بيئة كندية في نجد، ولكن هذه البيئة كانت يمنية إن صح ما زعم الرواة والمؤرخون. وسيادتهم لم تطل ولم يكن لها من الضخامة ما يمكنها من أن تسلط سلطانها السياسي والاقتصادي والديني على شمال البلاد العربية. وبيئة أخرى قرشية في مكة، كان لها سلطان سياسي حقيقي، ولكنه قوي في مكة وما حولها، وهذا السلطان السياسي كان يعتز بسلطان اقتصادي عظيم، فقد كان مقدار عظيم جدًّا من التجارة في يد قريش، وكان هذا السلطان يعتز بسلطان ديني قوي مصدره الكعبة التي كان يحج إليها أهل