للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ونحن إذا تتبعنا صورة توزع المعربات بين العرب، نجد أن توزيعها يختلف باختلاف الأمكنة، فهناك أمكنة تأثرت بالمعربات الفارسية بالدرجة الأولى، وهناك مواضع تأثرت بالمعربات السريانية في الأكثر، وهناك أقاليم تأثرت بالمعربات عن اليونانية أو الحبشية بالدرجة الأولى. ثم نجد ظاهرة أخرى في كيفية توزع المعربات وظهورها، هي ظاهرة الحاجة والظروف السائدة في مكان ما. فيمكننا إذن إرجاع تأثر لهجات العرب الجاهليين بالمؤثرات اللغوية الأعجمية إذن إلى عاملين: عامل الاختلاط بالأعاجم عن طريق الجوار أو السكن معهم في موضع واحد، واستخدامهم لهم ومجيء الأجانب من تجار ومبشرين إليهم، وعامل الحاجة التي كانت تدفع إلى أخذ أشياء غير معروفة في بلاد العرب، فتدخل العربية بأسمائها الأعجمية، فإذا انقضى زمن عليها، تدخل في ضمن اللسان العربي وتعرب، حتى ليخيل إلى من لا يعرف أصلها أنها عربية الأصل والنجار.

ولما تقدم نرى أن المعربات عن السريانية والفارسية هي أظهر وأبرز في لهجات عرب العراق من المعربات الأخرى، وأن المعربات عن السريانية واليونانية، اللاتينية أبرز وأوضح في لغة عرب بلاد الشأم من المعربات المنقولة عن الفارسية أو الحبشية.

وأن المعربات عن الحبشية واللهجات الإفريقية، هي أوضح وأكثر ظهورًا في لهجات العرب الجنوبيين من المعربات الأخرى، وذلك بسبب اختلاط العرب الجنوبيين بأهل الساحل الإفريقي الشرقي ووجود جاليات إفريقية في العربية الجنوبية وجاليات عربية جنوبية في السواحل الإفريقية المقابلة منذ أيام ما قبل الميلاد، فأدى هذا الاختلاط والتجاور إلى الأخذ والعطاء في اللغة. كما نجد المعربات عن الهندية والفارسية والإرمية ظاهرة بارزة على ألسنة أهل الخليج، لاتصالهم بالهند وبفارس وبالعراق.

وأما مثال ظهور المعربات بسبب الحاجة، فهو ما نجده في لهجة أهل يثرب وما حولها من مؤثرات فارسية وسريانية في الزراعة بصورة خاصة وفي نواح أخرى من نواحي الحياة الاجتماعية، فقد استعمل أهل المدينة ألفاظًا فارسية في لهجتهم، بسبب حاجتهم وظروفهم. فأرضهم أرض خصبة ذات آبار ومياه، ولما كانوا في حاجة إلى أيدي عاملة لتشغيلها لاستغلال مواردها استعانوا بالرقيق، وكان معظم الرقيق الذي جيء به، من رقيق العراق الذي يرجع إلى أصل فارسي، أو نبطي متأثر بالفارسية، لرخص ثمنه بالنسبة إلى رقيق الروم، ولفطنته ولمهارته في الحرف

<<  <  ج: ص:  >  >>