وقد تحدث "الجاحظ" في أثناء حديثه عن الشعوبية ومطاعنها على خطباء العرب عن أساليب الجاهليين في الكلام في أمورهم الجليلة مثل المنافرة والمفاخرة، وعقد المعاقدة والمعاهدة وأمثال ذلك، ثم عن أخذهم المخصرة، عند مناقلة الكلام، فقال:"وبمطاعنهم على خطباء العرب: بأخذ المخصرة عند مناقلة الكلام، ومساجلة الخصوم بالموزون والمقفى، والمنثور الذي لم يُقفّ، وبالأرجاز عند المنح، وعند مُجاثاة الخصم، وساعة المشاولة، وفي نفس المجادة والمحاورة.
وكذلك الأسجاع عند المنافرة والمفاخرة، واستعمال المنثور في خطب الحمالة، وفي مقامات الصلح وسلّ السخيمة، والقول عند المعاقدة والمعاهدة، وترك اللفظ يجري على سجيته وعلى سلامته، حتى يخرج على غير صنعة ولا اجتلاب تأليف، ولا التماس قافية، ولا تكلف لوزن. مع الذين عابوا من الإشارة بالعصي، والاتكاء على أطراف القسي، وخدّ وجه الأرض بها، واعتمادها عليها إذا اسحنفرت في كلامها، وافتنت يومَ الحفل في مذاهبها، ولزومهم العمائم في أيام الجمُوع، وأخذ المخاصر في كل حال، وجلوسها في خطب النكاح، وقيامها في خطب الصلح وكل ما دخل في باب الحمالة، وأكد شأن المحالفة، وحقق حُرمة المجاورة، وخطهم على رواحلهم في المواسم العظام، والمجامع الكبار، والتماسح بالأكف، والتحالف على النار، والتعاقد على المِلح، وأخذ العهد الموكّد واليمين الغموس، مثل قولهم: ما سرى نجم وهبت ريح، وبل بحر صوفة، وخالفت جرةٌ درة"١. فنحن إذن أمام طرق من الكلام، كل طريق منها يؤدي إلى نوع من الكلام، يستخدم في حالة من الحالات، فمساجلة الخصوم، تكون بالموزون والمقفى، والمنثور الذي لا يقفى، أي: المرسل، أما في حالة الشدة والعمل، مثل المتح، أي: الاستقاء من البئر، وفي حالات البناء ورفع الحجر، وفي القتال، فتستعمل الأرجاز، لتنشيط المهمة. وأما السجع، فيستعمله الكهان، ويستخدم في المنافرة والمفاخرة، وأما المنثور، أي: الكلام المرسل، الخالي من السجع والازدواج، فيستعمل في الحمالة، أي: تحمل ديات قوم لا مال لهم، فيقوم غيرهم بتحمل مبلغ الدية، وفي مقامات الصلح، ودفن الأحقاد والضغائن، إلى غير ذلك من حالات. فالسجع، إذن غير النثر، وغير