للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المزاوجة، وغير الرجز. وقد جعل "الجاحظ" الكلام المنثور: أسجاعًا، وأزواجًا، ومنثورًا١. هذه في نظره أساليب النثر.

وأنا إذ أصف أسلوب النثر عند الجاهليين، لا أعني أني أثق بصحة هذا النثر المنسوب إليهم، وأثبت صحة نصه، وإنما أنا أصفه مستندًا في وصفي هذا على المدون المعمول عليهم، الوارد إلينا في بطون الكتب؛ لأنه وإن كان في نظرنا مصنوعًا موضوعًا، لكنه صيغ على كل حال وفق أسلوب الجاهليين، وعلى نمط كلامهم، إذ لا يعقل أن يكون الرواة قد اخترعوا تلك الأنماط من الكلام اختراعًا، وأوجدها من العدم إيجادًا، فهم إذ وضعوا على ألسنة أهل الألسنة من العرب، فإنما وضعوا عن تقليد ومحاكاة، وعلى نمط كلام سابق كان مألوفوًا عند أهل الجاهلية الذين أدركوا الإسلام. ودليل ذلك أثره في خطب الخطباء الذين خطبوا أمام الرسول، وفي خطب الخطباء الذين عاشوا في صدر الإسلام.

فأنا حين أرفض النصوص، لا أزعم أنه لم يكن لهم نثر، وأن النثر إنما ظهر وعرف في الإسلام، بل أقر أنه قد كان لهم نثر، وكانت لهم خطب وكان لهم كلام، ولكن أقول إن هذه النصوص المثبتة المدوّنة، هي نصوص لا يجوّز العقل أن تكون صحيحة أصيلة مضبوطة؛ لما قلته من عدم قدرة الذاكرة على المحافظة على أصالة النثر.

وأود أن أستثني الأمثال الجاهلية من هذا التعميم الذي عممته على نصوص النثر الجاهلي، فالأمثال بحكم إيجازها وكثرة انتشارها على الألسنة، ولكونها أداة تعليمية تحفظها الذاكرة، ولا تخطئ فيها كثيرًا، حافظت لذلك على أصلها ونصها، ودليل ذلك أننا لا نزال نضرب الأمثال بها حتى اليوم، ثم إن منها ما قد ضرب به مثلًا في القرآن الكريم وفي الحديث النبوي، وفي خطب الخلفاء الراشدين وكتبهم، ولهذا فنحن لا نتعد عن العلم إن قلنا بصحتها من حيث النص والمعنى، أي: من حيث الضبط بالكلم ومن حيث المحافظة على المعنى٢. أما بقية النثر، فأنا على رأيي من عدم إمكان القول بصحة نصوصه، وإن كنت أوافق على جواز بناء بعض النصوص على معان جاهلية، فيكون النص في هذه الحالات من وضع


١ البيان والتبيين "٤/ ٢٨".
٢ بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "١/ ١٢٩".

<<  <  ج: ص:  >  >>