للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

للعرب، وقف العلماء على شيء يسير منه، فوقعوا من ثم في بلبلة من أمره، بسبب عدم اهتمامهم بأمر تلك اللغات، واقتصارهم في جمعهم قواعد النحو على لهجات الأعراب الذين اتصلوا بهم، فظهر لهم وكأنه نشاز، ولو فطنوا يومئذ إلى أنه من إعراب لغات، لكان حكمهم حكمًا آخر ولا شك. ومن هؤلاء الأعراب الذين أخذ عنهم البصريون: قيس، وتميم، وأسد، "فإن هؤلاء هم الذين أخذ عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتُّكل في الغريب، وفي الإعراب، والتصريف. ثم هذيل، وبعض كنانة، وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم"١، والقبائل المذكورة باستثناء الطائيين، هم من مجموعة "مضر"، وليس فيها قبيلة من "ربيعة"، لذلك نستطيع القول أن العربية قد بنيت على لهجات مضر، وحيث أن علماء اللغة أهملوا لغات القبائل الأخرى وبينها قبائل من مضر كذلك، فلم يأخذوا منها إلا عرضًا، تولد من عملهم هذا بناء العربية على تلك اللهجات وبموجب اجتهاد واستقصاء أولئك العلماء، فظهر من أجل ذلك الغريب والنشاز، والاختلاف في الإعراب، الذي أشار إلى قسم منه العلماء وهو الذي احتاجوا إليه للاستشهاد به في الشواهد والمناظرات وأكثره من لغات مضر، وأهملوا الباقي، ولو هم سجلوا كل ما عرفوه من نشاز لتجمع من ذلك تراث كبير كثير من تراث اللغات الجاهلية من اختلاف في لغة وقواعد إعراب وصرف.

لقد تمسكت القبائل بقواعد ألسنتها حتى في الإسلام، فكان أفرداها ينطقون بلهجتهم، من ذلك ما ذكره "الزجاجي" من اختلاف "عيسى بن عمر" الثقفي، و"أبي عمرو بن العلاء" في رفع أو نصب: "ليس الطيب إلا المسك"، ومن احتكامهما إلى "أبي المهدي"، فلما ذهبا إليه وجداه لا يرفع، فلما حاولا إقناعه بالرفع، أبى عليهما ذلك وقال: "لا، ليس هذا من لحني ولا من لحن قومي"، فلما ذهبا إلى "المنتجع" التميمي، وجداه لا ينصب وأبى إلا الرفع، وذكر "الزجاجي": "ليس في الأرض حجازي إلا وهو ينصب، ولا في الأرض تميمي إلا وهو يرفع"٢. وقع ذلك في الإسلام وبعد تثبيت القواعد، وكان هذا حال قبائل الحجاز، وحال تميم في الجاهلية ولا شك،


١ السيوطي، الاقتراح "١٩".
٢ مجالس العلماء "١" وما بعدها".

<<  <  ج: ص:  >  >>