ونحن لا نعرف حربًا أو غزوًا وقع للعرب، ثم لم يقترن خبره بشعر أو بأبيات منه، فقد كان المحاربون، يحاربون خصومهم بألسنتهم وبسيوفهم وبسهامهم ورماحهم في الوقت نفسه، وقد رأينا أنه قد كان للشعر الفضل الأكبر في كثير من الأحايين في حفظ أخبار الحروب وبقاء ذكرها إلى هذا اليوم. ونستطيع القول بأن قسطًا كبيرًا من الشعر الجاهلي، هو من شعر القتال. ولذلك نستطيع جعله صنفًا قائمًا بذاته نسميه شعر القتال والحروب.
ومن هذا الأثر الذي كان يعرفه الشعراء حق المعرفة، كانوا يستعملون ويترفعون به عن غيرهم، كتب هوذة بن عليّ الحنفي، إلى النبي يجيبه على رسالته التي أرسلها إليه:"ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، وأنا شاعر قومي وخطيبهم والعرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر أتَّبِعُك"١، فهو شاعر قومه وخطيبهم، وله مكانة في العرب، فهو يرى أن يميز عن غيره بميزات تمنح له، وكان الشعراء يمنون على قومهم بأنهم ألسنتهم المخرسة الناطقة المهاجمة المدافعة، فهم من الطبقة المثقفة الممتازة التي حظيت بالتقدير ونالت الاحترام، بسبب قدرة اللسان، وأثر الشعر في الناس.
ولا زال الشاعر ينال مكانة محترمة عند أهل الحضر وعند أهل الوبر، فهو لسان القبيلة حتى اليوم، يدافع عنها، ويهجوا أعداءها، ويرد على شعرائها، ويشيد بفعال قومه. وللهجاء عندهم مكانة، إلا أنها أخذت تتزلزل عن مكانها، بفعل التحضر الذي أخذ يغزو البوادي، وتغير العقلية، وعدم الاهتمام بالقيل والقال، مما أثر على مكانة الشعر والشاعر أيضًا، فلم يعد الناس يخشون لسان الشاعر، كما كانوا يخشونه أيام الجاهلية، يوم كانوا يسترضون الأعشى والحطيئة، خوفًا من لسانيهما السليطين.
ويطلق على الشعر الذي قيل قبل الإسلام: الشعر الجاهلي، لأنه قيل في الجاهلية التي شرحنا معناها في الجزء الأول من هذا الكتاب، وأصحابه كلهم ممن عاشوا وماتوا قبل الإسلام. أما الذين أدركوا الإسلام وأسلموا، فهم الشعراء المخضرمون
١ ابن سعد، طبقات "١/ ٢٦٢"، "ذكر بعثة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الرسل بكتبه إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام".