للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لأنهم أدركوا عهدين، فعاشوا رِدْحًا من عمرهم في الجاهلية، وقضوا البقية الباقية من حياتهم في الإسلام.

وإذا قلنا الشعر الجاهلي، أو شعر الجاهليين، فلا نريد أو يريد أحد منا الغض من شأنه أو الحطُّ من قدره، فإننا على العكس، نجد علماء الشعر والأدب، يرفعون من قدره، ويرون أنه الأوج الذي بلغه العرب في الشعر، ولا سيما الشعر المختار منه مثل المعلقات، فقد بلغ القمة في نظرهم، وقد بلغ من تقدير بعضهم للشعر الجاهلي، أنهم كانوا أحيانًا يذهبون بعيدًا في تدقيقهم إلى حدِّ التهوين من قيمة شاعر لا يمكن إنكار تفوقه، لمجرد أن ولادته كانت بعد ظهور الإسلام"١.

وروي أن عمر قال: "الشعر علم قوم لم يكن لهم علمٌ أعلم منه" وأنه كتب إلى أبي موسى الأشعري: "مُرْ من قِبَلَكَ بتعلم الشعر، فإنه يدل على معالي الأخلاق، وصواب الرأي، ومعرفة الأنساب"٢. ولقد قال الجاحظ: "وكانت العرب في جاهليتها تحتال في تخليدها، بأن تعتمد في ذلك على الشعر الموزون والكلام المقفَّى وكان ذلك هو ديوانها وعلى أن الشعر يفيد فضيلة البيان، على الشاعر الراغب، والمادح، وفضيلة المأثرة، على السيد المرغوب إليه، والممدوح به"٣. وقال العسكري: "لا تعرف أنساب العرب وتواريخها وأيامها ووقائعها إلا من جملة أشعارها، فالشعر ديوان العرب وخزانة حكمتها ومستنبط آدابها ومستودع علومها"٤، والشعر هو ديوان تسجيل من لا تسجيل له، لجأت إليه الشعوب القديمة حين لم تعرف الكتابة، ليقوم مقام الكتابة في تخليد المآثر والأحدث وما يستجد لها من أمور عظام، بما فيه من أثر على القلب، ومن نغم يساعد على الحفظ، فقام الشعر عند العرب مقام الكتابة، قبل أن تتفشى الكتابة بينهم٥.

والواقع أن هذا الشعر الجاهلي قد أفاد المؤرخ الباحث في تأريخ الجاهلية فائدة


١ بروكلمن "١/ ٣٦".
٢ العمدة "٣٨".
٣ الحيوان "١/ ٧٢. "عبد السلام محمد هارون"، المحاسن والأضداد "٣".
٤ كتاب الصناعتين "١٠٤".
٥ كارلو نالينو "٩٥ وما بعدها".

<<  <  ج: ص:  >  >>