للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أمام شجرة لا ينظر إليها ككل، إنما يستوقف نظره شيء خاص فيها، كاستواء ساقها أو جمال أغصانها، وإذا كان أمام بستان لا يحيطه بنظره، ولا يلتقطه ذهنه كما تلتقطه "الفوتوغرافيا"، إنما يكون كالنحلة تطير من زهرة إلى زهرة فيرتشف من كل رشفة.

هذه الخاصية في العقل العربي هي السر الذي يكشف لك ما نرى في أدب العرب -حتى في العصور الإسلامية- من نقص، وما ترى فيه من جمال.

فأما النقص فما تشعر به حين تقرأ قطعة أدبية –نظمًا أو نثرًا- من ضعف المنطق، وعدم تسلسل الأفكار تسلسلا دقيقًا، وقلة ارتباطها بعضها ببعض ارتباطًا وثيقًا، حتى لو عمدت إلى القصيدة -وخاصة في الشعر الجاهلي- فحذفت منها جملة أبيات أو قدمت متأخرًا أو أخرت متقدمًا، لم يلحظ القارئ أو السامع ذلك -وإن كان أديبًا- ما لم يكن قد قرأها من قبل١.

"وهذا النوع من النظر هو الذي قصَّر نفس الشاعر العربي، فلم يستطع أن يأتي بالقصائد القصصية الوافية، ولا أن يضع الملاحم الطويلة كالإلياذة والأوديسا.

أما ما أفادهم هذا النوع من التفكير، وخلع على آدابهم جمالا خاصًّا، فذلك أن هذا النظر لما انحصر في شيء جزئي خاص جعلهم ينفذون إلى باطنه، فيأتون بالمعاني البديعة الدقيقة التي تتصل به، كما جعلهم يتعاورون على الشيء الواحد، فيأتون فيه بالمعاني المختلفة من وجوه مختلفة، من غير إحاطة ولا شمول، فامتلأ أدبهم بالحكم القصار الرائعة والأمثال الحكيمة، وأتقنوا هذا النوع إلى حد بعيد، غَنِيَ به عقلهم، وانطلقت به ألسنتهم، حتى لينهض الخطيب فيأتي بخطبته كلها من هذه الأمثال الجيدة القصيرة، والحكم الموجزة الممتعة، فلكل جملة معانٍ كثيرة تركزت في حبة، أو بخار منتشر تجمع في قطرة. ولما جاء الإسلام تقدم هذا النوع من الأدب، واقتبسوا كثيرًا من حكم الفرس والهند والروم"٢.

وأكثر الوصف الوارد في الشعر الجاهلي، وصف لم يرد لأن، الشاعر قصده وأراده، وإنما هو وصف ورد عرضًا في القصيدة على النسق الذي زعموا أن "امرأ القيس" وضعه وحاكاه فيه غيره ممن عاصره أو جاء بعده من الشعراء.


١ فجر الإسلام "٤٢ وما بعدها"، "الطبعة العاشرة ١٩٦٥".
٢ فجر الإسلام "٤٣ وما بعدها".

<<  <  ج: ص:  >  >>