للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والشعر أوقع أثرًا على النفس من النثر، لما فيه من سحر النغم ومن جاذبية في الموسيقى، ومن توازن وتطابق في بنائه، ومن انسجام في تكوين أجزائه، بحيث إذا أسقط جزء من شطر بيت أو وضع جزء غريب في موضع الساقط، وهو ليس في وزنه اختلَّ التوازن فيه أي النغم: ولهذا اقترن الشعر بالغناء، لوجود النغم فيه، والنغم من أساس الغناء. فكان الشاعر يترنم بشعره ويتغنى به، ويقرأه بنغمة خاصة ليؤثر بذلك على سامعيه، وقد يقرن ترنيمه هذا بتحريك رأسه أو يديه أو جسمه من شدة انفعاله وتأثره بشعوره، ليؤثر بذلك في السامعين فيشبه موقفه هذا موقف السَّحرة في الأيام القديمة. ونظرًا لتغني اليونان والرومان عند تلاوتهم أشعارهم، قالوا: غنَّى شعرًا، بمعنى نظم شعرًا١، أو قال شعرًا أو صنع شعرًا. ونحن نقول في عربيتنا "أنْشَدَ شعرًا، نريد: قال شعرًا، وقرأ شعرًا، وأنشد الشعر، قرأه, وأنشد بهم، أي هجاهم. "وفي الخبر أن السليطيين قالوا لغسان هذا جرير ينشد بنا، أي يهجونا. وتناشدوا أنشد بعضهم بعضا"٢. و"النشيد رفع الصوت. قال أبو منصور: وإنما قيل للطالب ناشد لرفع صوته بالطلب، وكذلك المعرّف يرفع صوته بالتعريف يسمى منشدًا. ومن هذا إنشاد الشعر، وإنما هو رفع الصوت"٣. وفي هذا التفسير دلالة على أن الشعراء كانوا يرفعون صوتهم عند قولهم الشعر ويترنمون به، والترنيم والترتيل والإنشاد من ألوان الغناء. ولا استبعد كون قدماء الشعراء الجاهليين كانوا يترنمون في أشعارهم، أي أنهم كانوا ينشدونها إنشادًا، بطريقة غنائية، قد تصاحب بآلة موسيقية، وربما كانوا يتغنون بالشعر أمام الأصنام، تمجيدًا لها وتقربًا إليها، ومن هنا جاء مصطلح: "أنشد شعرًا" ولا استبعد أن يكون هذا شأن العرب الجنونبيين في معابدهم، نظرًا لما كان لهم من معابد ضخمة وطقوس دينية وتقرب إلى الأصنام.

ولا يستبعد احتمال ترنيم بعض الشعراء الجاهليين شعرهم على نغم آلة من آلات الطرب، على نحو ما يفعله اليوم بعض الشعراء الذين ينشدون أشعارهم بالعامية على "الرباب" "الربابة"، ينشدونه عند أبواب البيوت في الأعياد وفي المناسبات،


١ زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "١/ ٦٤".
٢ تاج العروس "٢/ ٥١٤"، "نشد".
٣ تاج العروس "٢/ ٥١٤"، "نشد".

<<  <  ج: ص:  >  >>