للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والمقابلة التامة والمطابقة الصحيحة بين الأجزاء. كل كلمة فيه تقابل كلمة مثلها، وكل عيار فيه يقابله عيار في وزنه وثقله. وفي معانيه معانٍ شعرية وسحر بيان، ثم إنك إذا قرأته بصوت مرتفع، وبحركات صوتية ذات ترنم، بنغم فيه حركات وسكنات، صار شعرًا. ومن هنا رمت قريش الرسول بقول الشعر، وبأنه شاعر لما سمعت القرآن. فرد عليهم بقول تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} ١. و {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} ٢.

وما كانت قريش لترمي الرسول بقول الشعر، وتزعم أن القرآن شعر أو أن فيه شعرًا، لو أنها كانت تعتبر الشعر الكلام الموزون المقفى حسب ولا غير ولا تدخل التخيل فيه، أي المعنى الشعري. ومن هنا قال المفسرون: "لأن انتفاء الشعرية عن القرآن أمر كالبين المحسوس. أما من حيث اللفظ فظاهر، لأن الشعر كلام موزون مقفى، وألفاظ القرآن ليست كذلك، إلا ما هو في غاية الندرة بطريق الاتفاق من غير تعمد. وأما من جهة التخيل، فلأن القرآن فيه أصول كل المعارف والحقائق والبراهين والدلائل المفيدة للتصديق إذا كان المكلف ممن يصدق ولا يعاند. وانتفاء الكهانة عنه أمر يفتقر إلى أدنى تأمل يوقف على أن كلام الكهان أسجاع لا معاني تحتها وأوضاع تنبو الطباع عنها"٣. وهذا المذهب الذي ذهبت قريش فيه في تفسير الشعر، هو الذي حمل علماء التفسير على الاحتراس كثيرًا في تفسير معنى الشعر وفي تحديده، وتحديد مفهوم الشاعر. فقالوا: "الشعر وهو الكلام المقفى الموزون قصدًا. والتقييد بالقصد مخرج ما وقع موزونًا اتفاقًا، فلا يسمى شعرًا، وما يجوز من الرجز، وهو نوع من الشعر عند الأكثر"٤.

على أن علماء العربية لم يغفلوا أو لم يشاءوا أن يخفوا حقيقة واقعة، هي أن


١ سورة يس، الآية: ٦٩، تفسير الطبري "٢٣/ ١٨"، ابن كثير، تفسير "٣/ ٥٧٨ وما بعدها".
٢ الحاقة، الآية: ٤٠ وما بعدها"، تفسير الطبري "٢٩/ ٤١".
٣ تفسير النيسابوري، "٢٩/ ٣٧"، "حاشية على تفسير الطبري"، "بولاق". "وليس هو بشعر كما زعمه طائفة من جهلة كفار قريش، ولا كهانة ولا مفتعل ولا سحر يؤثر، كما تنوعت فيه أقوال الضلال وآراء الجهال"، تفسير ابن كثير "٣/ ٥٧٨"، "في تفسر سورة يس".
٤ إرشاد الساري "٩/ ٨٨".

<<  <  ج: ص:  >  >>