للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من الشعر، وهو ما وقع في القرآن وفي كلام الرسول، مما يدل على أن العرب في أيام الرسول كانوا أوسع إدراكًا لمفهوم الشعر من الإسلاميين، وأنهم كانوا يدخلون فيه ما أخرجه من جاء بعدهم في الإسلام منه، بسبب فرية قريش على القرآن والرسول. وبسبب هذه الفرية، وقع جدل فيما بين الإسلاميين في موضوع الرجز، هل هو شعر، أو هو باب خاص من أبواب الكلام لا يدخل في باب الشعر، لثبوت ورود الرجز على لسان الرسول!

وقد أدرك العلماء أن هنالك فروقًا بين العرب وبين العجم في نظرتهم إلى الشعر. قال الجاحظ في معرض كلامه على ميزات اللسان العربي وتفوقه على ألسنة الأعاجم: "والأمثال التي ضربت فيها أجود وأسبر. والدليل أن البديهة مقصورة عليها، وأن الارتجال والاقتضاب خاص فيها، وما الفرق بين أشعارهم وبين الكلام الذي تسمية الروم والفرس شعرًا، وكيف صار النسيب في أشعارهم وفي كلامهم الذي أدخلوه في غنائهم وفي ألحانهم إنما يقال على ألسنة نسائهم، وهذا لا يصاب في العرب إلا القليل اليسير، وكيف صارت العرب تقطع الألحان الموزونة على الأشعار الموزونة، فتضع موزونًا على موزون، والعجم تمطط الألفاظ فتقبض وتبسط حتى تدخل في وزن اللحن فتضع موزونًا على موزون على غير موزون"١. فهذا رأي الجاحظ في الشعر العربي وفي الشعر عند الأعاجم.

وللشعر أوزان، هي بحوره. ضبطها: الخليل بن أحمد الفراهيدي في الإسلام ثم من جاء بعده. استنبطت من الشعر المألوف الذي كان سائدًا في أيامه، وضبطت بأوزان هي التفعيلات. بيد أننا لا نستطيع أن نقول: إن الأوزان التي ضبطها الإسلاميون، تمثل جميع بحور الشعر الجاهلي، وأن علماء الشعر كانوا قد استعرضوا كل ذلك الشعر، وحصروه حصرًا، ودرسوه درسًا، فوجدوه لا يخرج خارج هذا الحصر، فلم يفتهم منه ولا بحر واحد. فقول مثل هذا لا يمكن أن يقال وهل هنالك من دليل يؤيده ويسنده؟ وأنا لا استبعد احتمال عدم وقوف علماء الشعر على بحور أخرى، لم يصل علمها إليهم بسبب موتها قبل الإسلام، أو لقلة من كان ينظم بها، إلا لأنها كانت من الأشعار التي لم يصل علمها إلى علماء الشعر؛ لكونها من أشعار العرب الجنوبيين الذين كانوا يتكلمون


١ البيان والتبيين "٣٣"، "بيروت المطبعة الكاثوليكية ١٩٥٩م"، "انتقاء الدكتور جميل جبر".

<<  <  ج: ص:  >  >>