للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بالنسيب، والحنين إلى الحبيبة النائية، ذلك الحنين الذي يعتري الشاعر عند رؤية أطلالها الدائرة وهو راكب في القفار. ثم يتحول الشاعر في تخلص نموذجي من موطن لوعته وذكرياته إلى وصف مسيره في المفاوز دون انقطاع، وهو وصف قد يخرج أحيانًا إلى مجرد تعداد لأسماء ما يجتازه من أماكن. ثم يخلص من ذلك إلى وصف راحلته، فإذا هو عمد في هذا الوصف إلى تشبيه راحلته ببعض حيوان الوحش استطرد أحيانًا إلى وصف هذا الحيوان وصفًا شاملا. ثم لا يتجه الشاعر إلى التعبير عن حقيقة قصده إلا في آخر القصيدة.

هذا المنهج لا بد أن يكون قد رسخ منذ زمن طويل. وقد ذكر امرؤ القيس سلفًا له في الشكوى والبكاء على الإطلال، يدعى ابن خذام، وإن لم يستطع أدباء العصر العباسي تعيين هذا الشاعر، وتبع المتأخرون هذا المنهج ولم يكادوا يجسرون على تغييره"١.

وقد أكثر الشعراء من استعمال بعض الجمل في افتتاح شعرهم، مثل "بانت سعاد". ذكر أن "بندر الأصبهاني" كان يحفظ تسعمائة قصيدة أول كل منها "بانت سعاد"٢.

والشعر الجاهلي، شعر صلد متين، يميل إلى الرَّصَانة وإلى استعمال اللفظ الرَّصين، الذي يغلب عليه طابع البداوة، وشعر هذا طابعه، لا يمكن أن يتحرر، وأن يعبر عن المعاني بحرية، إذ يكون الشاعر مقيدًا بقيود الخضوع للعرف وللشكليات التي اصطلح عليها الشعراء والناس، ولهذا لم يتمكن الشعراء من التطرق إلى مختلف المعاني والتصورات الإنسانية، وصار الطابع الغالب عليه هو الطابع اللغوي، فخشونة الشعر، وجزالته وغرابته، من مميزات هذا الشعر ومن محبباته إلى النفوس، وكلما كان الشعر غريبًا وبألفاظ غريبة، نال التقدير والاستحسان، ولقد عمل الأصمعي قطعة كبيرة من أشعار العرب، لكنها لم تنل الاستحسان ولم يَرْضَ عنها العلماء لقلة غربتها واختصار روايتها"٣. والشعر الذي ينال التقدير، هو الشعر الخشن، الذي روي بألفاظ نجدية، ولذلك لم يحفل العلماء بشعر عدي بن زيد،


١ بروكلمن "١/ ٦٠".
٢ السيوطي، شرح شواهد "٢/ ٥٢٩".
٣ الفهرست "٨٩".

<<  <  ج: ص:  >  >>