حكاية، وأقام الإسلاميون على هذا المروي قواعد نظرياتهم في الشعر الجاهلي، ولم يرد في هذا المروي أي شيء عن كيفية ظهور بحور الشعر الجاهلي، ولا عمن جدد وأوجد هذه البحور. وليس لنا أي أمل في إمكان الحصول في المستقبل على علم جديد عن تطور ذلك الشعر وعن ابتكار رجاله الجاهليين فيه، ما دام سند علمنا هذا المورد القائم على الرواية القديمة. أما إذا عثر على نصوص مدفونة عربية جاهلية أو أعجمية فيها بحوث عن الكلام المنظوم عند العرب، فذلك شيء آخر بالطبع. ومثل هذه النصوص هي التي يكون في وسعها وحدها تقديم صورة علمية واضحة عن الشعر الجاهلي.
ومن رأي بعض أهل الأدب، أن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدِّمن والآثار، فبكى وشكا، وخاطب الرِّبع، واستوقف الرفيق، ليجعل ذلك سببًا لذكر أهلها الظاعنين عنها. ثم وصل ذلك بالنسيب، فشكا شدة الوجد وألم الفراق، وفرط الصبابة والشوق؛ لأن التشبيب قريب من النفوس، لائط بالقلوب، لما جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء، فليس يكاد أحد يخلو من أن يكون متعلقًا منه بسبب، وضاربًا فيه بسهم، حلال أو حرام. فإذا استوثق من الإصغاء إليه، والاستماع له، عقب بإيجاب الحقوق، فرحل في شعره، وشكا النصب والسهر، وسرى الليل وحر الهجير، وإنضاء الراحلة والبعير. فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء، وذمامة التأميل، وقرر عنده ما ناله من المكاره في المسير، بدأ في المديح، فبعثه على المكافأة، وهزه للسماح، وفضله على الأشباه، وصغر في قدره الجزيل.
فالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب، وعدل بين هذه الأقسام، فلم يجعل واحدًا منها أغلب على الشعر، ولم يطل، فيمل السامعين، ولم يقطع بالنفوس ظمأ إلى المزيد"١.
وزعموا أن هذا كان نهج شعراء الجاهلية في نظم شعرهم، ونهج شعراء صدر الإسلام، حتى اختلط العرب بالعجم، وانتقل العرب من حياة إلى حياة، وظهر الشعراء الأعاجم الذي لم يتمكنوا من غسل أدمغتهم من المعاني الأعجمية، ومن التفكير الأعجمي، فنظموا الشعر بالعربية، ولكن بمعانٍ أعجمية جديدة، وجاءوا
١ الشعر والشعراء "١/ ٢٠ وما بعدها"، "دار الثقافة".