وهو في نظري أقدم من القصيد، لأنه أبسط منه وأسهل على النظم، فهو يمثل المرحلة الأولى من مراحل الشعر المألوف. وقد تكون سهولته في النظم، هي التي جعلت كبار الشعراء يأنفون من النظم به، فهو باب يمكن أن يلجه الشعراء الصغار، وربما يتغلبون به على كبار أهل القصيد، ولعل سهولته هذه قصرت في عمره، إذ جعلت الذاكرة تنساه بسرعة، لسهولته هذه، كما يسرع نسيان السجع والكلام الاعتيادي من الذاكرة فضاع بسبب ذلك الرجز الجاهلي، ولم تبق منه غير بقية قليلة.
واستعمل الرجز في أحوال البديهة والارتجال، وقد ارتجز في القتال، وفي الحداء والمفاخرة، وما جرى هذا المجرى، واستعمل في الأعمال التي تحتاج إلى تنشيط وإثارة همم، لما فيه من ملاءمة لذلك. فلما بنى المسلمون مسجد الرسول بالمدينة، وكان الرسول يحمل اللَّبن معهم، كان الصحابة يرتجزون الرجز لإثارة الهمم وللتخفيف من وطأة العمل. قال "أبو عبيدة: إنما كان الشاعر يقول من الرجز البيتين والثلاثة ونحو ذلك، إذا حارب أو شاتم أو فاخر، حتى كان العجاج أول من أطاله وقصده، ونسب فيه، وذكر الديار، واستوقف الركاب عليها ووصف ما فيها، وبكى على الشباب، ووصف الراحلة، كما فعلت الشعراء بالقصيد. فكان في الرجاز كامرئ القيس في الشعراء. وقال غيره: أول من طوَّل الرجز الأغلب العجلي، وهو قديم، وزعم الجمحي وغيره أنه أول من رجز، ولا أظن ذلك صحيحًا، لأنه إنما كان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن نجد الرجز أقدم من ذلك"١.
وبعد "الأغلب بن جشم بن عمر بن عبيدة بن حارثة العجلي" أول من نحا بالرجز منحى القصيد، فأسبغه وأطاله. وهو من المخضرمين. وقد قتل بنهاوند سنة "٢١هـ". وهو الذي جاء إلى "المغيرة بن شعبة"، فقال له:
أرجزًا تريد أم قصيدًا ... لقد طلبت هينًا موجودا
وكان الخليفة "عمر" -على ما يذكره أهل الأخبار- كتب إلى المغيرة وهو
١ العمدة "١/ ٨٩ وما بعدها"، "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد"، الأغاني "١٨/ ١٦٤".