للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن آيات علم الجاهليين بصناعة الشعر وبفنونه وحذقهم بأساليبه، استعمالهم بحور الشعر حسب المواقف والمناسبات واتخاذهم الإيقاع والنغم وجرس الألفاظ أساسًا في النظم ليكون الشعر مطابقًا للمناسبة التي سينظم لها. فللغناء بحور، وللقتال بحور تثير القلوب وتلهبها، وللسفر وزن، والمناسبات المؤلمة مثل الرثاء والتوجع وزن يناسبها، وكل ذلك ناتج عن طبع وتطبع وعلم بالمناسبة، وقد أشير على هذا الاستعمال في الأخبار. وهذه المناسبات هي التي خلقت تلك البحور.

ومن آيات علم الجاهليين بالشعر، ما نقرأه في الأخبار عن علم أهل الجاهلية بطرائق الشعر وأبوابه وبعيوبه وضعفه، ومن أخذهم على الشعراء في أيام الجاهلية وقوعهم في الأخطاء، أو مخالفتهم لأصوله ونغمه وخروجه على ما هو متعارف عليه. وأمثال ذلك مما يدل على أن الشاعر وإن كان ينظم الشعر عن طبع وسليقة، وعن موهبة كامنة فيه، لكنه كان يراعي في نظمه قواعد موروثة معلومة، وأصولا محفوظة، على نحو ما نراه اليوم عند الشعراء الشعبيين، الذين ينظمون الشعر العامي "الشعر النَّبطي"، المقال باللهجات العامية، وفق قواعد مقررة عندهم معروفة، وأبواب مسماة عندهم موسومة، يحفظونها حفظًا، لأنها هي غير مدونة، ثم إن أكثرهم ممن لا يقرأ ولا يكتب.

ومما يؤيد هذا الرأي ما جاء في "لسان العرب": "قال أبو الحسن الأخفش: النصب في القوافي، أن تسلم القافية من الفساد، وتكون تامة البناء، فإذا جاء ذلك في الشعر المجزوء، لم يسمَّ نصبًا، وإن كانت قافيته قد تمت، قال: سمعنا ذلك من العرب، قال: وليس هذا مما سمى الخليل، وإنما تؤخذ الأسماء عن العرب"١. فالأسماء والأصول أخذت من العرب، ومعنى هذا أنه قد كان للعرب علم سابق بأصول الشعر وبقواعده، وقد تمكن "الخليل" بذكائه وبتتبعه للعلوم من جمع تلك القواعد، في العروض ومن أخذ ما كان عند الشعراء والعارفين بفنونه من مصطلحات وعلم، فكوَّن من كل ذلك: العَرُوض.

هذا وإن المعلوم أن "أرسطو" كان قد ألَّف كتابًا في الشعر وفي العروض "Prosody" وقد تطرق فيه إلى الوزن "Metre" أي وزن الأبيات والقصيدة، كما تلكم عن "التفعيلات"، وعن أنواع النظم، وقد درس كتابه علماء ذلك الوقت.


١ اللسان "١/ ٧٦١"، "نصب".

<<  <  ج: ص:  >  >>