للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

به من خصومهم، ومن ثم صار أهل الكوفة يتمرءون بخصومهم، فينتقصونهم ويلصقون بعلمهم وبعلمائهم التهم، ويغمزون فيهم، وصار أهل البصرة يكيدون لأهل الكوفة وينتقصونهم، وكانوا "يرون أن أصحابهم لو ركبوا في نصاب رجل واحد ما بلغوا أن يعدلوا أضعف رجل في البصرة، وقد رموهم في باب الكذب بقمص الحناجر، والأخذ عن كل بر في الرواية وفاجر، وجعلهم من علماء الأسواق، وتلامذة الأوراق"١. ووجدت هذه المنافسة أرضًا صالحة في قصور الخلفاء والوزراء والأكابر ببغداد، حتى تحولت إلى مؤامرات ومهاترات، ابتعدت عن أدب العلم والعلماء، حتى نزلت أحيانًا إلى درك مهاترات العامة. وإلى التزوير، والاستعانة بالشهود الزور لتأييد عالم على عالم، كالذي وقع في المسألة الزنبورية في الخلاف الذي كان بين سيبويه والكسائي.

وقد وقعت العصبية بين المدينتين حتى في قراءة القرآن ففضل أهل كل مدينة قارئ مدينتهم، واعتبروا قراءة صاحبهم أحسن القراءات، فأهل الكوفة يتعصبون لقراءة عبد الله بن مسعود ويرون أن مصحفه أصح المصاحف، وأهل البصرة يتعصبون لأبي موسى الأشعري، ويأخذون بقراءته وبلحنه، "وكأنما يسمون مصحفه لباب القلوب"٢. والكوفيون يكتبون "والضحى" بالياء، وأهل البصرة يكتبونها بالألف٣.

وكانت أولية العربية بالبصرة، "لأن أبا الأسود الدؤلي قد نزل بها وأخذ عنه جماعة هناك، فكان كل أصحابه الذين شققوا العربية بعده بصريين، ثم انتقل النحو إلى الكوفة". ثم استفاض نحو الكوفيين، فنبغ فيه من سكنة الكوفة أبو جعفر الرؤاسي، ومعاذ الهراء، واضع التصريف، والكسائي، والفراء٤. وذكر أنه لم يعلم أن أحدًا من علماء البصريين أخذ شيئًا من النحو واللغة عن أحد من أهل الكوفة، بينما أخذ الكوفيون عن أهل البصرة، وما من أساتذتهم أحد إلا وقد تلمذ لبصري٥. وقد قدم ابن سلام أهل البصرة على غيرهم في


١ الرافعي "١/ ٤٢٩".
٢ الرافعي "٢/ ١٧".
٣ المقتنع "٣٥"، القرآن الكريم وأثره في الدراسات النحوية "٣٥".
٤ الرافعي "١/ ٤٣٠ وما بعدها".
٥ الرافعي "١/ ٤٣٢ وما بعدها".

<<  <  ج: ص:  >  >>