عمرو بن كركرة، مع من جالست من رواة البغداديين، فما رأيت أحدًا منهم قصد إلى شعر في النسيب فأنشده. وكان خلف يجمع ذلك كله"١.
ولم يقتصر عمل الراوية على رواية الشعر وإنشاده للناس، بل كان يقوم أيضًا بشرح غامض ألفاظه وبإجلاء ما قد يكون في الشعر من معان خفية غامضة، كما كان يقوم بشرح الظروف والمناسبات التي نظم الشعر فيها، إلى غير ذلك من أمور تتعلق بالشعر. ولهذا فإن راوية الشاعر، هو ديوان حي للشاعر، فيه كل ما يتعلق بشعر ذلك الشاعر.
ولم يقتصر الشعر على عشاقه ورواته والعلماء به، أو على الرواة الشعراء، بل ساهم فيه أناس تخصصوا بأمور أخرى، كان لاختصاصهم اتصال متين بالشعر، مثل علماء النسب وعلماء الأيام والأخبار. وفقد أمدنا هؤلاء بمادة لا بأس بها من الشعر الجاهلي في الجاهلية وفي الإسلام. وكانوا إذا تحدثوا عن نسب قبيلة أو عن نسب رجل معروف، ذكروا ما قيل في حقها أو في حقه من مدح أو هجاء، وكانوا إذا تكلموا عن أيام الجاهلية، اضطروا إلى سرد ما قال فيها أبطالها وفرسانها من شعر. فقد كان من عادة الأبطال إنشاد شعر التبجح بالنفس وبمفاخرها وبمفاخر القبيلة حين نزولهم ساحة القتال، وكان من عادة المنتصر تخليد نصره بأشعار ينشدها أبناء القبيلة، لتكون تسجيلا لمفاخره بني الناس.
وساهم علماء العربية: علماء اللغة والنحو والتفسير والحديث مساهمة تذكر في تخليد الشعر الجاهلي، بما جمعوه من شواهد في اللغة وفي النحو وفي الصرف، وفي تفسير القرآن والحديث من أبيات وقطع بل قصائد أحيانًا. فقدموا لنا بفعلهم هذا مادة ساعدتنا في زيادة معارفنا عن شعر ما قبل الإسلام وفي ضبط الشعر الوارد في المصادر الأخرى، وتصحيح ما قد يكون قد وقع في الروايات المتضاربة من أوهام، كما أمدتنا بمادة لا بأس بها، بل جديدة ونادرة أحيانًا عن أصحاب الشعر وعن المناسبات التي قيل فيها.
وقد تعرض الجاحظ لأمر هؤلاء في الشعر، فقال: "ولم أرَ غاية النحويين إلا كل شعر فيه إعراب. ولم أرَ غاية رواة الشعر إلا كل شعر فيه غريب أو معنى صعب يحتاج إلى الاستخراج. ولم أرَ غاية رواة الأخبار إلا كل شعر فيه
١ البَيَانُ والتَّبْيينُ "١٠٠"، "انتقاء الدكتور جميل جبر".