للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الشاهد والمثل"١.

يقول بروكلمن: "ولم يبدأ جمع الشعر إلا في عصر الأمويين، وإن لم يبلغ هذا الجمع ذروته إلا على أيدي العلماء في عصر العباسيين، بيد أن معنى التحري في وثوق الرواية، والتدقيق في النقل اللغوي على النحو الذي نعرفه في عصرنا هذا، كان أمرًا غريبًا بعد على جماع ذلك العصر. ولما كان كثير من هؤلاء الجماع أنفسهم شعراء، فقد ظنوا أنه ليس من حقهم فقط، بل ربما كان واجبًا عليهم أيضًا في بعض الأحيان أن يصلحوا ما رووه للشعراء القدماء أو يزيدوا عليه. فلا عجب إذا لم يبالوا أيضًا بالوضع والاختراع لتوثيق رواياتهم. وقد أراد حماد الراوية أن يفسر تفوقه، والتفوق المزعوم لأصحابه الكوفيين في الدراية بالشعر القديم، فزعم أنه وجد الشعر الذي كتب بأمر النعمان ودفن في قصره الأبيض بالحيرة، ثم كشف في أيام المختار بن أبي عبيد.

لقد غير الرواة بعض أشعار الجاهلية عمدًا، ونسبوا الأشعار القديمة إلى شعراء من الجاهلية الأولى، كما يمكن أن يكون وضع أشعار قديمة، منحولة على مشاهير الأبطال في الزمن الأول لتمجيد بعض القبائل، أكثر مما نستطيع إثباته.

على أنه بالرغم من كل العيوب التي لم يكن منها بد في المصادر القديمة، يبدو أن القصد إلى التشويه والتحريف لم يلعب إلا دورًا ثانويًّا. وقد روى علماء المسلمين أشعارًا للجاهليين تشتمل على أسماء أصنام وعبادتها، وأن أسقطوا أيضًا أبياتًا أخرى لشبهات دينية، وذلك في حالات يبدو أنها قليلة، لأن الشعور الديني لم يكن غالبًا على نفوس العرب في الجاهلية"٢.

ويعود الفضل في جمع الشعر الجاهلي وتدوينه وتخليده إلى مدينتين اشتهرتا بالعلم، هما: الكوفة والبصرة، فقد كان علماء هاتين المدينتين في طليعة من عني بجمع الشعر الجاهلي وتقصِّيه، ولا نكاد نجد مدينة إسلامية، بلغت مبلغهما في

هذه الناحية، أو تمكنت من مزاحمتهما في جمع شتات هذا الشعر وحصره في كتب مدونة صارت مرجعًا للعلماء ولعشاق هذا الشعر إلى يومنا هذا. ونكاد لا نجد كتابًا في الشعر أو في الأدب، إلا وهو عيال على علم علماء هاتين المدينتين.


١ البَيَانُ والتَّبْيينُ "١٠١"، "انتقاء الدكتور جميل جبر"، "بيروت، المطبعة الكاثوليكية، ١٩٥٩م".
٢ بروكلمن "١/ ٦٥ وما بعدها".

<<  <  ج: ص:  >  >>