ولم تساهم مكة مدينة قريش، مساهمة الكوفة أو البصرة في جمع الشعر الجاهلي، الذي زعم أنه نظم بلغتهم، ولم تلحق يثرب بالمدينتين المذكورتين في هذا المضمار كذلك. ولم تبلغ دمشق التي صارت حاضرة العالم الإسلامي بعد مقتل "علي" وتولي "معاوية" الحكم، مبلغ المدينتين في هذا العلم وفي علوم العربية الأخرى، مع حب الأمويين للشعر الجاهلي، ورغبتهم في توفيق بلاد الشأم المؤيدة لهم، على العراق لمشاكسته لهم، ومعارضته للشأم منذ ما قبل الإسلام. ويظهر أن أرض دمشق لم تكن أرضًا خصبة بالنسبة للشعر الجاهلي لأن سكانها حتى الفتح كانوا بين سوريين، أي من بني إرم، وبين إغريق وعناصر أعجمية أخرى، بينما كانت الحيرة والأنبار وعين التمر وسائر القرى العربية الأخرى، تعلم العربية في مدارسها، وتدرس الخط العربي، وكان رجال الدين فيها، قد وقفوا على الثقافة اليونانية، ونقلوا كتبًا منها إلى السريانية، ولكونهم من النصارى الشرقيين، كانت لغة العلم والدين عندهم السريانية، ولكنهم كانوا يعظون ويعلمون بالعربية. أما عرب الشأم، فقد أقاموا في قرى ومضارب في أطراف بلاد الشأم، ومع احتفال سادات غسان بالشعراء، فإن عنايتهم بهم لم تبلغ مبلغ عناية آل لخم بهم، ولعل ذلك بسبب ارتباطهم الشديد بالروم، وهيمنة الروم عليهم، بحيث لم يكونوا يسمحون لهم بالتحرك إلا بعد استشارتهم، ولا أن يتصلوا بالعرب إلا بأمر منهم، ولهذا لم يجدوا لهم منفعة تذكر بالإغداق على الشعراء وبإغراء الشعراء بالمجيء إليهم لمدحهم، اللهم إلا إذا جاء الشعراء إليهم، ورموا بأنفسهم ضيوفًا عليهم، أما سادات الحيرة، فقد كانوا أكثر تحررًا في أمورهم وسياستهم من منافسيهم الغساسنة، وكان نفوذ الفرس خفيفًا عليهم، وقد بلغ حكمهم في أيام امرئ القيس "٣٢٨م" أسوار نجران، وكانت البحرين تابعة للحيرة، يحكمها عامل بعينه ملك الحيرة، كما كان نفوذ الملوك يمتد إلى نجد فاليمامة، فلملوك الحيرة إذن مصالح سياسية خاصة في منطقة واسعة من جزيرة العرب، ولهم روابط مع سادات القبائل، ونظرًا إلى ما للشعر والشعراء من أهمية في التأثير بالرأي العام، اضطروا إلى مداهنة الشعراء من أهمية في التأثير بالرأي العام، اضطروا إلى مداهنة الشعراء والإغداق عليهم والترحيب بهم، لشراء ألسنتهم، أما من كان يوشى به عندهم، فيغضبون عليه، أو يجد أنه لم يكافأ على مدحه لهم، وقيامه بشعره بالدعاية لهم، مكافاة عادلة، فكان يهرب إلى أعداء آل لخم،