الغساسنة، ليجد له مأوى عندهم، كما فعل النابغة والمتلمس. ولما كان الغساسنة قد تأثروا بالحياة الحضرية، أكثر من ملوك الحيرة، وقد تشربوا بالثقافة البيزنطية، فعاشوا في بيوت بدمشق بين الحضر، وبنوا القصور الكبيرة في القرى التابعة لهم، وهي مواضع خصبة، وقد أثثوها على الطريقة الرومية، وكانوا يسمعون الغناء الرومي، وكانت مصالحهم بالأعراب وبجزيرة العرب -كما قلت- غير ذات بال، لم يحفلوا بالشعراء الوافدين عليهم احتفال ملوك الحيرة بهم، ولم يغدقوا إغداق المناذرة عليهم، فصار عدد الشعراء الوافدين عليهم قليلا إذا قيس بعدد من كان يذهب منهم إلى قصور الحيرة، كما يظهر ذلك جليًّا من كتب الأخبار والأدب التي تحدثت عن الشعراء الجاهليين، ولعل هذا الصدّ عن الشعراء هو الذي حمل النابغة على ألا يمكث عند الغساسنة طويلا، فحمل حمله، وعاد إلى الحيرة معتذرًا إلى النعمان عما بدر منه من خطأ، راميًا سبب ما وقع بينهما من قطيعة إلى عمل الوشاة الحساد. ولعله كان أيضًا في جملة العوامل التي جعلت العراق يتقدم على الشأم في رواية الشعر الجاهلي وفي نشره، فنحن لا نكاد نعرف رجلا من أهل الشأم الصميمين، قام بالشعر الجاهلي، أو بأمر شعراء العرب في الشأم من أهل الجاهلية، كما قام به أهل العراق. ولم تشتهر دمشق ولا غيرها من مدن بلاد الشأم بما قامت به مدن العراق من جمع الشعر الجاهلي على الرغم من تحمس الأمويين وكلفهم في جمعه وتدوينه.
وقد تعرض العلماء لأمر المدينة، فقالوا: "فأما مدينة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلا نعلم بها إمامًا في العربية. قال الأصمعي: أقمت بالمدينة. زمانًا ما رأيت بها قصيدة واحدة صحيحة إلا مصحفة أو مصنوعة.
وكان بها ابن دأب، يضع الشعر وأحاديث السمر، وكلامًا ينسبه إلى العرب، فسقط وذهب علمه وخفت روايته، وهو عيسى بن يزيد بن بكر بن دأب، يكنى أبا الوليد، وكان شاعرًا وعلمه بالأخبار أكثر١. وذكر أن في جملة ما صحفه من الشعر، قول الحارث بن حِلِّزةَ اليَشْكُرِيّ:
أيها الكاذب المبلغ عنا ... عبد عمرو وهل بذاك انتهاء