للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وابيضَّ من شرب المدامة وجهُهُ ... فبياضه يوم الحساب سوادُ١

غير أن علينا باعتبارنا من المؤرخين أن نحترز احترازًا شديدًا في تقبل كل ما يرون من الأخبار، ولا سيما في المسائل الشخصية، وفي القضايا التي تكتنفها الخصومات في مثل هذه الحالة. فقد كان لحماد خصوم كثيرون من أهل هذا الشأن، وقد حسدوه على تقدمه وشهرته كما كان هو يحسد غيره ولا شك إن تقدم عليه. والإنسان مهما تقدم وترفع، فإنه لا يستطيع أن يرد نفسه من العاطفة، ولا سيما عاطفة الدفاع عن النفس وإثبات الشخصية والتنافس مع الآخرين. وقد كان المفضل الضبي -كما ذكرت- في جملة خصوم حماد، وهو من رءوس رواة الشعر في تلك الأيام، وهو نفسه لم يكن من الناجين من هذه التهمة التي اتهم بها حماد.

غير أن لا يعني أن حمادًا كان صادقًا في كل ما قاله وفي كل ما رواه، فوضعه للشعر، وصنعه له، وحمله على القدماء من المسائل المتواترة التي لا سبيل إلى نكرانها. إنما أريد هنا أن أنبه على ضرورة التأني والتقصي في أثناء مجابهتنا لمثل هذه الأخبار، لنخرج ما قد بولغ أو زيد فيه، حتى يكون حكمنا حكمًا محايدًا، أو قريبًا من الواقع.

وكما استدعى خلفاء بني أمية حمادًا للاستفادة منه في الشعر، كذلك استدعاه خلفاء بني العباس الأوائل، كالمنصور والمهدي، ليروي لهما ما كان يحفظه من الشعر والأخبار، وليتحدث إليهم فيما أشكل عليهم من غريب الشعر وقد استدعاه الخليفة المنصور مرة، فأحضر من البصرة. غير أن صِلاته بهم لم تكن -على ما يظهر- على نحو صلاته بالأمويين، حيث حسب عليهم. واستدعي إلى المهدي، كما ذكرت ذلك. ونقرأ في رواية أن حمادًا قال لإياس بن مطيع، وقد ذكر صِلاته بالعباسيين: "دعني فإن دولتي كانت في بني أمية، وما لي عند هؤلاء خير"٢، مما يخبر أنه كان مجفوًا عند بني العباس، وذكر أنه قال لمروان بن أبي حفصة: "ذهب ويحك ما كنت تعهد"٣. وقد يكون لتقدم حماد


١ الحيوان "٤/ ٤٤٥".
٢ الأغاني "٦/ ٨١"، "٨/ ٢٥٣".
٣ "ذهب ويحك ما كنت تعهد، ذاك زمان، وهذا زمان" الزجاجي، مجالس العلماء "٢٨"، الخزانة "٤/ ١٣٠"، "بولاق".

<<  <  ج: ص:  >  >>