الشعر والتفسير، ولا سيما أن العهد بينهم وبين الجاهلية لم يكن طويلًا، وأن الأخذ عمن شهد الجاهلية أو أخذ منهم وسمع كان ممكنًا يسيرًا، ومن هنا كان ما رووه من شعر جاهلي مادة مهمة للمؤرخ مهما قيل في أمره.
ثم إننا حين نروي الشعر الجاهلي، فلا نرويه أو ننشده، أو نحفظه لأنه شعر مقدس، لا يجوز أن يمسه أحد بسوء، وأنه تراث خالد، إذا تعرض له إنسان أو تحرش به، فإنما هو يتعرض لأثر تأريخي قديم من آثار هذه الأمة، وإنما نرويه على أنه من مرويات العلماء، وأنه مهما قيل فيه وفي أصله، فإنه يحاول أن يصور لنا أحوال زمن سبق الإسلام، وهو زمن مهم جدًّا بالنسبة لنا، لاتصاله بالإسلام، ولقيام الإسلام عليه، ولكونه فصولًا متقدمة مجهولة من كتاب ناقص، ضاعت فصوله الأولى، هو كتاب في تأريخ العرب منذ القدم إلى هذا اليوم، فإذا فقدنا الأصول، فلا بأس بالتسلي بما نسبه المتأخرون على الأقل إلى المتقدمين، مهما كان بعد هذا المنسوب عن الصحة والحق، ومهما كانت نسبة الباطل فيه كبيرة، وحتى إذا كانت النسبة مائة بالمائة، وهي نسبة نبالغ فيها بالطبع، لا أعتقد أن أحدًا سيراها، مهما بلغ به الشك والحذر بالنسبة إلى أصالة الشعر الجاهلي، ومن هنا فإن النزاع الجائر حول صحة الشعر الجاهلي، والذي سيبقى مثارًا قائمًا، حتى يظهر أثر جاهلي مكتوب، وعندئذ فقد يحسم شيئًا من مواضع الخلاف المؤلفة لهذا النزاع، يجب ألا يحملنا على الابتعاد عن هذا الشعر، باعتبار أنه لا يمثل الجاهلية تمثيلًا صحيحًا، وأنه شعر مكذوب منحول، وإنما يجب أن يدفعنا -على العكس- إلى الاهتمام به، باعتبار أنه من أقدم الآثار التي وصلت إلينا، المدون في الإسلام. وأنها إن كانت منحولة، فإن نحلها على ألسنة الجاهليين، نحل قديم، يعتبر تأريخيًا من أقدم المنحولات الواصلة إلينا في المدونات الإسلامية، وأنها تمثل صنعة وصناعة صناع، حاولوا تقليد الماضي، على ما وصل خبره إليهم، فصاغوه على تلك الصياغة، فهو أثر أصيل لأقدم مصنوعات ومحاكاة وتقليد لآثار قديمة لها صلة بتأريخ العرب القديم.
وأرى في الوقت نفسه أن من الضروري وجوب تقصي الأخبار عن الشعر المصنوع، وتتبع المراجع للوصول إلى أقدم مرجع ورد فيه كل شعر مصنوع، وتسجيل الأبيات والقطع والقصائد التي ترد لأول مرة في أقدم مورد من الموارد، والنص على اسم المورد، وعلى سنده إن كان مذكورا، لنتمكن بهذه الدراسة