للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الذي هو شعر الغناء. فإننا نجد في النتف الباقية من الجمل التي كان يقولها الحجاج أثناء حجهم، آثار شعر قد كان مقرونا بالغناء.

ونظرًا لوجود تماس مباشر بين هذا الشعر وبين الحياة العامة، فإن في استطاعتنا القول، إنه قد يكون من أقدم أنواع الشعر عند العرب، وهو شعر لم ينبع من ألسنة الشعراء والمحترفين، وإنما خرج على كل لسان، وساهم فيه كل شخص: رجل أو امرأة، مثقف أو جاهل، حكيم أو سوقي. وهو بعد نابع من صميم الحياة، ومن باطن القلب، للترفيه عن النفس، ولتخفيف التعب، ولا زال الناس يتغنون عند وقوع مثل هذه الأمور لهم، وهو غناء لم يحظ ويا للأسف بالرعاية والعناية، لذلك لا نجد له ذكرًا في الكتب إلا بالمناسبات.

ويرى العلماء المشتغلون بموضوع الشعر من الغربيين، أن بين الشعر والسحر صلة كبيرة، بل رأى بعض منهم أن الغرض الذي قصد إليه من الشعر في الأصل هو السحر، ودليل ذلك أن الغناء عند الشعوب البدائية، ليس متسقا مع نغم العمل وإيقاع اليد العاملة، فنجد الغناء عند البناء أو الجر أو الحفر، أو الزرع لا يتسق مع نوع حركة العمل، وإنما كان يسلي العمال ويسعفهم بقوى سحرية، وهو الغرض من جميع فن القول عند البدائيين، أي تشجيع العمل بطريق سحري١.

وقد ذهب "بروكلمن" و "كولدتزيهر" إلى أن هذا الأثر السحري لا يظهر في الشعر العربي القديم إلا في شعر الهجاء، "فمن قبل أن ينحدر الهجاء إلى شعر السخرية والاستهزاء، كان في يد الشاعر سحرًا يقصد به تعطيل قوى الخصم بتأثير سحري. ومن ثم كان الشاعر، إذا تهيأ لإطلاق مثل ذلك اللعن، لبس زيًّا خاصًّا شبيهًا بزي الكاهن. ومن هنا أيضا تسميته بالشاعر، أي العلم، لا بمعنى أنه كان علاما بخصائص فن أو صناعة معينة، بل بمعنى أنه كان شاعرًا بقوة شعره السحرية، كما أن قصيدته كانت هي القالب المادي لذلك الشعر"٢.

وكانت غاية الأغاني القصيرة، التي يرددها البدائي في المواقف الكبرى للحياة


١ بروكلمن "١/ ٤٥".
K. Th. Preuss, Die Geistige Kultur der Naturvolker, Leipzeg – Berlin ١٩١٤,S. ٨٥.
٢ بروكلمن "١/ ٤٦". I. Goldziher, Abhand. Zur Arab. Philologie, I, I.

<<  <  ج: ص:  >  >>