للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إعطاء رأي علمي فيه. أما ما ذكرته، فهو نقل لآراء أهل الأخبار، ورأينا في آرائهم في هذه الأمور معروف، فنحن لا نأخذ آراءهم مأخذ الجد، ولا نثق بها، وكلها في نظرنا حاصل عصبية، وقد لعبت العاطفة القبلية دورًا خطيرًا في ظهرها، ونحن لا نستطيع تقديم ربيعة على مضر في الشعر، ولا تقديم مضر على ربيعة فيه، لعدم وجود دليل لدينا نتخذه سندًا ومستمسكًا في أيدينا لإثبات أي رأي من هذه الرأيين. أما أن يكون قد بدأ باليمن، فالمسند، يعارضه ويناقضه، إلا إذا اعتبرنا اليمن، القبائل الساكنة في الشمال، أي خارج العربية الجنوبية، والتي يرجع النسابون نسبها عادة إلى اليمن، وهي قبائل كانت تتكلم بلهجات عربية شمالية، فذلك أمر آخر، وأمرها عندنا حينئذ مثل أمر ربيعة ومضر، لا نستطيع تقديمها على ربيعة ولا على مضر، ولا نستطيع تقديم ربيعة أو مضر، للسبب المتقدم، وهو عدم وجود أدلة لدينا تعيننا في الحكم بتقديم فريق على فريق، وإعطائه الأولية في قول الشعر.

والشعر في نظرنا موهبة إنسانية عامة، لم تختص بقوم دون قوم، ولا بأمة دون أمة، وهي على هذه السجية بين العرب، لم تختص بربيعة، حتى نقول إن الشعر بدأ أول ما بدأ بها، ولا بمضر حتى نقول إنه ظهر أول ما ظهر عندها ولا باليمن، حتى نقول إنه بدأ بها وختم بها. وإنما هو نتاج قرائح كل موهوب وذي حس شاعري من كل القبائل والعشائر. والشعر كما قلت مرارًا شعور وتعبير عن عواطف تخالج النفس، فكل إنسان يكون عنده حس مرهف، واستعداد طبيعي، وذوق موسيقي، يمكن أن يكون شاعرًا من أي حي كان، ولهذا كان الشعراء من قبائل مختلفة، وإذا تقدمت قبيلة على أخرى في كثرة عدد شعرائهم، فليس مرد ذلك أن تلك القبيلة كانت ذات حس مرهف واستعداد فطري لقول الشعر، وأن بقية القبائل كانت قبائل غبية بليدة الحس والعواطف، فلم ينبغ بينها مثل ذلك العدد من الشعراء، فقد تكون هنالك أسباب أخرى نجهلها في هذا اليوم جعلتنا نتصور أنها كانت متخلفة في الشعور، كأن تكون منازل تلك القبائل بعيدة منعزلة، لم يتصل بها أحد من جمّاع الشعر ورواته. وهم بين كوفي وبصري، فلم يصل شعرها إليهم، فانقطع نتيجة لذلك عنا، أو أن تلك القبائل كانت قبائل صغيرة، لم يكن لها شأن يذكر، فانحصر شعرها في حدودها ولم يخرج عنها، فخمل ذكره ولم ينتشر خبره بين القبائل الأخرى، فلما ظهر

<<  <  ج: ص:  >  >>