ودليلنا أننا إذا دققنا في هذا الشعر الجاهلي الواصل إلينا في الكتب، نجد أنه شعر قبائل كبيرة، لعبت في الغالب دورًا خطيرًا في مجتمع ذلك اليوم، مثل: كندة وبكر، وأسد، وتميم، وتغلب، ثم هو شعر شعراء كان لهم اتصال وثيق بالعراق في الدرجة الأولى، أي بملوك الحيرة، الذين كان نفوذهم يشمل أرضين واسعة، مثل البحرين ونجد واليمامة في بعض الأحيان، فكان لقبائل هذه الأرضين اتصال بحكام الحيرة، ولها مواقف معهم: حسنة أحيانًا وسيئة أحيانًا أخرى، وفي مثل هذ المواقف، يكون للشعراء دور خطير فيها، فهم بين مادح، أو ذام قادح، أو رسول قوم جاء إلى الملوك في وفادة لفك أسير، أو لإصلاح ذات بين، أو جاء لنيل عطاء، ونحن لا نكاد نجد شاعرًا من الفحول أو من الشعراء المشهورين، إلا وله صلة بملك أو أكثر من هؤلاء الملوك، حتى لا يكاد يفلت منهم شاعر. أما ملوك الغساسنة، فلهم بعد أولئك الملوك صلة بالشعراء، بل هم دونهم اتصالًا بالشعراء ومرجع ذلك في نظري أن حكم الغساسنة لم يتجاوز بادية الشام وحدود مملكة البيزنطيين، فلم يكن لهم لذلك اتصال بقبائل البادية البعيدة عن منطقة نفوذهم، ولا بقبائل الحجاز ونجد واليمامة والبحرين، فتقلص مجال اتصالهم بالشعراء، ولم يصل إليهم إلا الشعراء من أصحاب الحاجات، الذين كانوا يطوفون البلاد، ويقصدون الموسرين الكرماء أينما كانوا لنيل صلاتهم ثمنا لمدحهم لهم، وإلا الشعراء الذين غضب ملوك الحيرة عليهم، أو لم ينالوا منهم تحقيق مطمع وحل مشكل، أو فك أسير، فجاءوا لذلك إلى الغساسنة خصومهم نكاية بهم، وإلا بالشعراء الذين أغار قومهم على أرض الغساسنة، فوقع نفر منهم في أسرهم، فأرسلهم أهلهم وسطاء ورسلًا عنهم، للتوسل إليهم بفك أسراهم.
ونحن لو ثبتنا أسماء مواطن شعراء الجاهلية على صورة جزيرة العرب نرى أنها كانت في الحجاز ونجد واليمامة، والبحرين والعراق. أما بلاد الشأم فقد كانت فقيرة جدًّا بهم، بل لا نكاد نجد فيها شاعرًا لامع الاسم، ترك أثرًا في الشعر. ويلفت هذا الجدب في الشعر النظر إليه حقًّا، فقد عاشت ببلاد الشأم قبائل كبيرة كان لها شأن كبير في تلك البلاد قبل الإسلام وفي الإسلام، مثل غسان، وبهراء، وكلب، وقضاعة، وتنوخ، وتغلب، وقبائل أخرى لعبت دورًا خطيرًا في الحروب مع عرب الحيرة، وفي مساعدة الروم، كما لعبت دورًا خطيرًا في