للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

جوعه بافتراسه، وهو معذور في ذلك لأنه جائع لا طعام له، ومن هنا هان الموت في نظر الصعلوك، فهو معه يتبعه مثل ظله وملازم له، وتولدت في نفسه فلسفة "الآجال": فلسفة أن لكل نفس أجل، وأن كل نفس ذائقة الموت، وأن الإنسان مهما عاش وعمر، فلا بد من أن يلاقي الموت ويستجيب له، لن ينجيه منه قصر "ريمان"، ولا حرس أبوابه المدججون بالسلاح، يمنعون الناس من دخوله، فالموت لايعرف جرس القصور ولا يحول بينه وبين من يريد الوصول إليه حائل مهما كان. قال أبو الطمحان القيني:

ولو كنت في ريمان تحرس بابه ... أرجايل أحبوش وأغضف آلف

إذن لأتتني حيث كنت منيتي ... يخب بها هاد بامري قائف١

ولقرب الموت من الصعاليك، ولتعقب أصحاب الثأر دوما لهم، لازموا سلاحهم، فكانوا لا ينامون إلا وسيفهم معهم. كما لازمهم الرقاد والسهر بالليل، خشية مباغتة غادر لهم، والليل رفيق الغدر، لذلك كان ليلهم قصيرا، ونومهم قليلا، من شدة قلقهم ومن تحسبهم لتعقب طلاب الثأر لهم، ونجد في شعرهم إشارات إلى مظاهر القلق الذي كان يستولي عليهم، فيحول بينهم وبين النوم.

ونجد في شعر للشنفرى توجع وتألم ومرارة، وإن صيغ بصورة الاستهتار بالموت وبالحياة، فهو إن جاءه الموت، فلن يبالي، ولمَ يبالي، وهو إنسان خليع بائس، إن مات لا يجد من يبكي عليه من أحد. فأي توجع أشد من هذا التوجع المصوغ في هذا البيت الساخر:

إذا ما أتتني ميتتي لم أبالها ... ولم تذر خالاتي الدموع وعمتي٢

ولكن الحياة على ما فيها من مرارة وشقاء، مطلوبة محبوبة، فرب لحظة فيها حبور تنسي كل ما كابده الإنسان من تعاسة وشقاء، والموت مكروه ممقوت، وإن تمناه المتمني، وما تمنيه له إلا لثورة طارئة في النفس ولضيق في الصدر، فإذا بان الموت لمتمنيه ضاق صدره، وتمنى لو مد في عمره، يدفعه الأمل إلى


١ الأغاني "١١/ ١٣٣".
٢ الأغاني "٢١/ ١٣٩"، الشعراء الصعاليك "٣٣".

<<  <  ج: ص:  >  >>