للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ترعى، فأسرع إليه وضربه بسيفه فقتله، ونهبوا إبله، وعادوا بها مسرعين فرحين، خشية شعور الحي بأمرهم وتعقبهم لهم. قتله دون أن يشعر بوخزة ضمير، لقتله إنسانا نائما طاعنا في السن يرعى إبله، وإن وجدناه يبرر فعلته هذه، بأنه لم ينل هذه الإبل إلا بعد أن صكَّه الجوع، واستولى عليه الفقر، فهو قد قام به مضطرا١، والضرورات تبيح المحظورات.

ونرى "صخر الغي" المزني، يقول في شعر له، إنه قتل رجلا من "مزينة" وسلبه ماله، ليقوى به مال رجل فقير، لا يملك مالا:

في المزني الذي حششت به ... مال ضريك تلاده النكد٢

وعلى الرغم من هذا العنف، ومن هذه القساوة العنيفة، التي تصل إلى الوحشية نرى عند بعضهم، روحا إنسانية، فيها العطف على الضعيف ومساعدة المحتاج وبذل المال والنجدة، والبر للأهل والأقارب بل وللغريب أيضا. بل نجد هذه الروح أحيانا حتى عند القساة منهم، وسبب ذلك أن الصعالكة في ثورات نفسية، يعيشون عيشة قلقة مضطربة، فإذا كانوا في ثورة جامحة من جوع وحاجة وتألم بما حلّ بهم وبما هم فيه من سوء حال، هاجوا فكفروا بكل شيء، وثاروا على كل شيء وعلي كل أحد، وصاروا لا يبالون بعرف ولا سنة، يقتلون لأتفه الأسباب، لأنهم معرضون أنفسهم في كل لحظة للقتل. ثم إن القتل لا شيء بالنسبة إلى تلك الأيام، وإن تعاظم في نظرنا، فهم في ذلك مثل الأسود الجائعة، لا تعبأ بشيء، وكل همها الحصول على فريسة لتأكلها فتعيش عليها، فإذا وجد الصعلوك غنيمة، وعاد إلى مقره سالما ارتخت أعصابه، وهدأت سورته، وتذكر نفسه وما يقاسيه من ألم وجوع، فيعود إنسانا آخر، بارا بأصحابه حنونا عليهم، نادما على حياة يعيشها جعلته يعيش مثل الوحوش الكاسرة، كريما يعطي مما ناله بقوته وبسلاحه وبذكائه. هذا "عروة بن الورد" و "أبو خراش" الهذلي


١
وما نلتها حتى تصعلكت حقبة ... وكدت لأسباب المنية أعرف
وحتى رأيت الجوع بالصيف ضرني ... إذا قمت تغشاني ظلال فأسدف
الشعراء الصعاليك "١٨٢ وما بعدها".
٢ الشعراء الصعاليك "٢٣٨".

<<  <  ج: ص:  >  >>