للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وغيرهما، فنجد فيهم النقيضين، نجد فيهم القسوة بل الوحشية، ثم نجد فيهم العطف والشفقة والرحمة والإشفاق على الضعفاء، وما الجمع بين النقيضين إلا من واقع هذه الظروف النفسية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإدارية التي كانوا يعيشون فيها.

وفي شعر ينسب إلى "أبي خراش" الهذلي، امتداح للكرم ولكرامة الإنسان في الحياة، وترفع عن المذلة وتباه بإيثار الغير على نفسه، مع أنه فقير صعلوك، فهو يقول:

وإني لأُثوي الجوع حتى يملني ... فيذهب لم يدنس ثيابي ولا جرمي

وأغتبق الماء القراح فأنتهي ... إذا الزاد أمسى للمزلج ذا طعم

أرد شجاع البطن قد تعلمينه ... وأوثر غيري من عيالك بالطعم

مخافة أن أحيا برغم وذلة ... وللموت خير من حياة على رغمِ١

وقد عاش هؤلاء على المباغتة والغارات، فكانوا يتسترون في المواضع الوعرة، في مفارق الطرق وشعاب الجبال حتى إذا مر بهم مار، ووجدوا أن في إمكانهم الحصول على غنيمة، باغتوه، وأخذوا منه ما هو عنده. وقد يغيرون على الأحياء ليلا، فيأخذون ما يجدونه أمامه، ثم يجرون بسرعة حتى لا يدركهم أحد، ليصلوا إلى مواضع آمنة بعيدة عن التعقيب، مثل الكهوف والمغاور والآكام، يأوون إليها ويعشون بها عيشة الخائف المتشرد الهارب من مجتمعه، الحاقد عليه، لأن في قلبه حقدا عليه، لأنه لم يفهمه ولم يفهم سبب نقمته على مجتمعه. وأكثرهم من الشباب الذين خرجوا على طاعة أوليائهم أو على عرف مجتمعهم، أو عوملوا معاملة أشعرتهم أنها أذلتهم وجرحت كرامتهم، فانفصلوا بذلك عن أهلهم وعشيرتهم أو فصلهم أهلهم عنهم، فلم يبق أمامهم من سبيل سوى التصعلك والتشرد.

وكان من هؤلاء مثل "عروة بن الورد" من جمع حوله الصعاليك، ولفّهم حوله، فكان يغزو بالقوي الجسر منهم، فإذا أصابوا مغنما جاءوا به إلى أصحابهم الضعفاء ممن لا يتمكنون أو لا يتجاسرون على الغارة، فيصيبونهم مما أصابوا ويعينونهم بما غنموا، وحياة على مثل هذا الطراز، هي حياة شديدة قاسية ولا شك.


١ ديوان الهذليين "٢/ ١٢٧"، "دار الكتب"، الأغاني "٢١/ ٤٢".

<<  <  ج: ص:  >  >>