للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بعيدة عن فهم، ولا تبعد منازلها بعدا كبيرا أيضا عن ديار هذيل١.

وكان بين "صخر الغي" الهذلي و "تأبط شرا" عداء شديد. وقد سمى "الهذليُّ" "تأبط شرا" بـ "ابن ترني" ازدراء به. ونجد في الشعر الوارد في هجاء الشاعرين بعضهما لبعض لونا طريفا من ألوان هذا الصراع الذي كان يقع بين الصعاليك٢، وهو صراع أسبابه عديدة، صراع متولد من عصبية قبلية، أو من تنافس وتحاسد في الحرفة وعلى الرئاسة والزعامة والصيت والشهرة، أو في طمع كل واحد منهم في الآخر للاستيلاء على ما حصل عليه من مال ليتعيش به. وقد انتشر الصعاليك في كل موضع من جزيرة العرب، ففي كل مكان منها جوع وفقر وصعلكة، حتى صاروا قوة مرعبة مخوفة، لشد بأسهم في القتال، ولمعرفتهم بالمسالك وبمنافذ الطرق وبمداخلها وبأسرار البوادي وخفايا النجاد والجبال، فكانوا أن اتخذوا من الكهوف والمنحدرات والمسترات المشرفة على الأودية والطرق، مواضع رصد واختفاء، يراقبون منها حركات المارة، فإذا وجدوهم دخلوا موضعا صعبا، يمكن حصرهم به، انقضوا عليهم، فأخذوا منهم ما يكون عندهم من متاع هذه الدنيا، ثم هربوا بما غنموا إلى مخابئهم حيث لا يصل إليهم أحد، وإن وجدوا أن السابلة أقوى منهم وأشد بأسا، اتخذوا من الفرار وسيلة للسلامة والنجاة، فلا يلحقهم متعقب، ولايطمع أحد في إصابتهم بمكروه، وهم على علم واسع وخبرة عالية بمجاهل البوادي وبخبايا الأرض وهكذا يكونون في نأي عن التعقيب وفي منجاة من التعقب. ولما سدت السبل في وجه "النعمان بن المنذر" بعد أن غضب كسرى عليه، وأخذ ينتقل من مكان إلى مكان، لجأ إلى "هانئ بن قبيصة" الشيباني، فأجاره وقال: "لزمني ذمامك، وإني مانعك مما أمنع نفسي وأهلي وأن ذلك مهلكي ومهلكك، وعندي رأي لست أشير به لأدفعك عما تريد من مجاورتي، ولكنه الصواب، فقال هاته، قال: إن كل أمر يجمل بالرجل أن يكون عليه، إلا أن يكون بعد الملك سوقة. والموت نازل بكل أحد، ولأن تموت كريما خير من أن تتجرع الذل أو تبقى سوقة بعد الملك. امض إلى صاحبك واحمل عليه هدايا ومالا وألق نفسك بين يديه،


١ شرح أشعار الهذليين "١/ ٢٣٣ وما بعدها".
٢ الشعراء الصعاليك "١٩٢".

<<  <  ج: ص:  >  >>