إعراض "النعمان" السائح عن ملكه، وهروبه إلى البراري ليعيش فيها عيشة الرهبان، هو شعر لا يمكن أن يكون من شعر "عدي"، لأن شاعرنا لم يكن كبير السن آنذاك حتى يصدر منه مثل هذا الشعر، كما أنه لم يكن على اتصال وثيق بذلك الملك في ذلك العهد، ولعله من الشعر المصنوع، الذي وضع عليه. وهو شيء كثير. ولو قالوا إنه نظمه، وهو في سجنه حكاية عن قصة قديمة، لكان كلامهم هذا أقرب إلى العقل وأسهل للتصديق، لأنه كان قد كبر في العمر، وفي موقف يمكن أن يصدر منه مثل هذا الشعر.
وهو شعر سلس سهل جميل ذو معان عميقة لطيفة، تتحدث عن تجارب رجل خبر الأيام، وعاش في نعيم ورفاه، حتى وصل مركزا عاليا في بلده، وإذا به يجد طريقه إلى المقابر، فيقبر بها وكأنه لم يكن شيئا مذكورا، فمن رأى الثاوين فيها، ومن نظر إلى القبور، فليحدث نفسه، أنه سيكون مثلهم، وأنه موف على قرن زوال، وصروف الدهر لا يبقى لها، ولا تدوم حال على حال، وقد صار أسلوبه هذا نموذجا لمن مال إلى الزهد والتصوف في الإسلام، وربما كان الشاعر "أبو العتاهية" ممن تأثر بهذا الشعر المنسوب إلى "عدي".
ولعل الأحداث التي وقعت له، والأيام التي قضاها في سجنه، حتى جاءته منيته، وهو فيه، قد أثرت في نفسيته فجعلته، يكثر من الزهد في هذه الحياة، ومن وعظ الإنسان، بأن يغتر ويتجبر ويتكبر، فالسعادة لا تدوم لأحد، والملك لا يخلد لملك أو مالك، والحياة مهما كانت سعيدة ناعمة، فإنها قصيرة تمر مر البرق خاطفة، فعلى المتجبر أن يتعلم العبر من حياة الماضين ومن الأمم العظيمة، ومن الجبابرة، من أمثال: الأكاسرة وملوك الروم، وصاحب الحضر، ومن حياة من شاد القصور، وإذا به يتركها لغيره، ثم يدفن في حفرة ضيقة، فيخاطب النعمان صاحبه والشامتين به، الحساد الذين وشوا به حتى أصابه ما أصابه، ويقول لهم جميعا، وهو قابع في سجنه١: