يكاد العلماء يجمعون على أن المراد من الشيطان شيطان الجن، وأن إدباره لسماع الأذان حقيقة لا مجاز فيه، ويتلمس كل فريق منهم حكمة هذا الإدبار والهروب.
فبعضهم يرى أنه يهرب حتى لا يشهد للمؤذن يوم القيامة، فإنه قد ورد في البخاري قول النبي صلى الله عليه وسلم "ارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة" ورد بأنه عام مخصوص، وأنه لا يشهد إلا المؤمن، وقيل: إن هذا الرد غير مسلم إذ يشهد له الجميع حتى الجماد وإلى هذا ذهب ابن عمر، حتى قال لمؤذن: شهد لك كل رطب ويابس.
وبعضهم يرى أنه يهرب لأن الأذان دعوة إلى الصلاة المشتملة على السجود الذي أباه وعصى بسببه، ورد بأنه يعود للسجود، فلو كان هربه لأجله لم يعد إلا عند فراغه، وأجيب بأنه يهرب عند سماع الدعاء بذلك، ليغالط نفسه بأنه لم يخالف أمرا، ثم يرجع ليفسد على المصلي سجوده الذي أباه.
وبعضهم يرى أنه يهرب لاتفاق الجميع على الإعلان بشهادة الخلق وإقامة الشريعة، واعترض بأن الاتفاق على ذلك حاصل قبل الأذان وبعده من جميع من يصلي، وأجيب بأن الإعلان أخص من الاتفاق، فإن الإعلان المختص لا يشاركه فيه غيره من الجهر بالتكبير، والتلاوة مثلا، ولهذا قال لعبد الله بن زيد "ألقه على بلال: فإنه أندى صوتا منك" أي أقعد في المد والإطالة والإسماع، ليعم الصوت ويطول أمد التأذين فيكثر الجمع، ويفوت على الشيطان مقصوده من إلهاء الآدمي عن إقامة الصلاة في جماعة، أو إخراجها عن وقتها، أو وقت فضيلتها فيفر حينئذ وقد يئس عن أن يردهم عما أعلنوا به، ثم يرجع لما طبع عليه من الأذى والوسوسة: قاله الحافظ ابن حجر.
وبعضهم يرى أنه يهرب نفورا عن سماع الأذان، قال ابن الجوزي: على الأذان هيبة، يشتد انزعاج الشيطان بسببها، لأنه لا يكاد يقع في الأذان رياء ولا غفلة عند النطق به، بخلاف الصلاة، فإن النفس تحضر فيها، فيفتح لها الشيطان أبواب الوسوسة.
وبعضهم يرى أنه يهرب لأن الأذان إعلام بالصورة التي هي أفضل الأعمال، بألفاظ هي من أفضل الذكر، لا يزاد فيها، ولا ينقص منها، بل تقع على وفق الأمر، فيفر من سماعها، وأما الصلاة فلما يقع من كثير من الناس فيها من التفريط، فيتمكن الشيطان الخبيث من المفرط، فلو قدر أن المصلي وفى بجميع ما أمر به فيها لم يقربه، إذا كان وحده، وهو نادر، وكذا إذا انضم إليه من هو مثله، فإنه يكون أندر. أشار إلى ذلك ابن أبي جمرة.
وبعضهم يرى أنه يهرب لعظم أمر الأذان، لما اشتمل عليه من قواعد التوحيد وإظهار شعائر الإسلام، وإعلانه، ويأسه من وسوسة الإنسان عند الإعلان بالتوحيد.
وكل ما ذكروه إنما هو حكم متلمسة تقرب الحكم إلى العقول، وليس عللا ينتقل منها إلى المعلول،