ثم دعوى النسخ لا تقبل عن غير دليل، ورواية مجاهد إنه صلى خلف ابن عمر فلم يره يفعل ذلك مطعون فيها. قال الحافظ ابن حجر: لأن راويها أبو بكر بن عياش ساء حفظه في آخر أيامه. وعلى تقدير صحته فقد أثبت ذلك عنه سالم ونافع وغيرهما، والعدد الكثير أولى من واحد، لا سيما وهم مثبتون، وهو ناف، والمثبت مقدم على النافي، مع أن الجمع بين الروايتين ممكن، وهو أنه لم يكن يراه واجبا ففعله تارة، وتركه أخرى، ومما يدل على ضعفه ما رواه البخاري عن مالك أن ابن عمر كان إذا رأى رجلا لا يرفع يديه إذا ركع وإذا رفع رماه بالحصا.
فالحاصل أن رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام مشروع باتفاق العلماء والخلاف في رفعهما عند الركوع، وعند الرفع منه. وقد نقل النووي أنهم أجمعوا على أن الرفع غير واجب، إلا ما حكي عن داود، فإنه قال بوجوبه عند تكبيرة الإحرام، وممن قال بوجوبه عند تكبيرة الإحرام أيضا الأوزاعي والحميدي شيخ البخاري وابن خزيمة، وحكاه القاضي حسين عن الإمام أحمد. قال ابن عبد البر: كل من نقل عنه الإيجاب لا يبطل الصلاة بتركه إلا في رواية عن الأوزاعي والحميدي اهـ وقال الحافظ ابن حجر: ونقل بعض الحنفية أنه يأثم تاركه، اهـ هذا وللشافعي قول: إنه إذا قام من التشهد الأول رفع يديه، قال النووي: وهذا القول هو الصواب، فقد صح فيه حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يفعله. اهـ والحديث الذي أشار إليه النووي رواه البخاري، ولفظه "وإذا قام من الركعتين رفع يديه".
وهناك قول غريب لبعض أهل الحديث، أنه يستحب رفع اليدين في السجود أيضا، وهو بعيد.
كما أنه نقل عن الزيدية أنه لا يرفع يديه عند الإحرام، ولا يعتد بهم، والله أعلم.
هذا حكم رفع اليدين، أما كيفيته فقد قال النووي: المشهور من مذهبنا ومذهب الجماهير أنه يرفع يديه حذو منكبيه، بحيث تحاذي أطراف أصابعه فروع أذنيه، أي أعلى أذنيه، وإبهاماه شحمتي أذنيه، وراحتاه منكبيه، وبهذا جمع الشافعي رضي الله عنه بين روايات الأحاديث فاستحسن الناس ذلك منه. اهـ.
وفي رواية عن مالك: يرفع يديه حذاء صدره، وفي رواية لابن حبيب يرفعهما فوق رأسه، وعند بعض المالكية يرفعهما فوق أذنيه مدا مع رأسه. وقال الطحاوي: إنه لاختلاف الحال، فإلى الصدر والمنكبين أيام البرد، وأيديهم تحت أكسيتهم، ومع آذانهم وفوق رءوسهم عند إخراجها.
وقال الطحاوي أيضا: يرفع ناشرا أصابعه، مستقبلا لباطن كفيه القبلة، وفي المحيط: ولا يفرج بين الأصابع تفريجا، وفي الحاوي للماوردي: يجعل باطن كل كف إلى الأخرى، وعن سحنون: ظهورهما إلى السماء وبطونهما إلى الأرض، وعن القاضي: يقيمهما محنيتين شيئا يسيرا، ونقل المحاملي عن أصحابه: يستحب تفريق الأصابع، وقال الغزالي: لا يتكلف ضما ولا تفريقا، بل يتركهما على هيئتهما، وقال الرافعي: يفرق تفريقا وسيطا، وفي المغنى لابن قدامة: يستحب أن يمد أصابعه، ويضم بعضها إلى بعض.
قال ابن عبد البر: وكلها آثار محفوظة مشهورة، دالة على التوسعة والتخيير. والله أعلم.